مجتمع

أنفاق “قسد” تحت المدن المأهولة: خطر كامن يهدد شمال وشرق سوريا

أغسطس 6, 2025

أنفاق “قسد” تحت المدن المأهولة: خطر كامن يهدد شمال وشرق سوريا

بينما كان يُفترض أن يُمهّد الاتفاق الموقع في 10 آذار/ مارس 2025 بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، إلى بداية مرحلة جديدة من التهدئة والتسويات السياسية والأمنية في شمال وشرق سوريا، تتواصل على الأرض عمليات حفر الأنفاق من قبل “قسد” في مناطق متفرقة على خطوط التماس، لا سيما في ريف حلب الشرقي، وريف تل أبيض ورأس العين، وداخل مدن الرقة والحسكة والقامشلي والطبقة، وسط صمت رسمي وغضب شعبي متصاعد.

 

 

لكن الأخطر، كما يكشف هذا التقرير، أن أعمال الحفر لم تعد مقتصرة على المواقع العسكرية أو الخطوط الدفاعية، بل باتت تنفذ تحت المشافي والمدارس والأحياء المأهولة بالسكان، وضمن مدن تقع في بيئة جيولوجية رخوة ذات تربة هشة، وقريبة من مجرى نهر الفرات، ما يزيد من احتمالات حدوث كوارث عمرانية وإنسانية كبيرة، خاصة في حال وقوع زلازل أو تسرب للمياه الجوفية.

 

 

 

تحذيرات من “سلاح دمار شامل”

يصف المهندس المتخصص في السدود والموارد المائية، عبد الرزاق العليوي، في حديث لمنصة “سطور”، الأنفاق التي تحفرها “قسد” بأنها “سلاح تدمير شامل لا يقل فتكاً عن الأسلحة التقليدية”. ويشير إلى أن هذه الاستراتيجية بدأت منذ عام 2012 مع سيطرة حزب العمال الكردستاني -الممثل بفرعه السوري “وحدات حماية الشعب الكردية”- على المدن ذات الغالبية الكردية، وواصلت تطورها وتوسعها بعد تشكيل “قسد” في عام 2016، خاصة مع دخولها مناطق عربية كالحسكة، دير الزور، الرقة، منبج، وتل رفعت.

 

 

ويوضح العليوي أن الهدف الأول من هذه الأنفاق يتمثل في “تشكيل شبكة وجيوب حماية لمقاتلي قسد وممرات آمنة داخل مناطق مأهولة وسهلية”، ما يعرض السكان لمخاطر دائمة ويُعد انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي.

 

 

أما الهدف الثاني فيكمن بحسب العليوي في استخدامها “لأعمال إجرامية غير مشروعة، مثل الاعتقالات التعسفية، وتخزين الأسلحة، وتهريب المخدرات كالكبتاغون”.

 

 

وفي الهدف الثالث، يرى أن “الأنفاق تمثل وسيلة لإعادة التسلل والقيام بعمليات إرهابية في حال خسارة قسد لأي منطقة، كما حدث في منبج، حيث واصلت قسد شن عمليات خلف خطوط الجيش السوري”.

 

 

ويضيف العليوي تحذيره الأبرز: “إذا ما وصلت قسد إلى حالة يأس من استعادة السيطرة على منطقة ما، فقد تلجأ لتفجير هذه الأنفاق، ما سيؤدي إلى عمليات قتل جماعي وانهيارات كارثية للمباني”.

 

 

ويعتبر أن وجود هذه الأنفاق تحت المدن السكنية يشكل كارثة مستقبلية، مشيراً إلى أن “عملية ردم كل كيلومتر من النفق بعرض مترين وارتفاع مترين تتطلب أكثر من مليون دولار، ما يعني أن معالجة ما حفَرته قسد طيلة عقد كامل يحتاج مليارات الدولارات”، في ظل شبكة قدّر طولها بعشرات آلاف الكيلومترات.

 

 

 

الرقة.. المدينة الإسفنجية

 

في معرض حديثه عن محافظة الرقة نموذجاً واضحاً للمأساة القادمة، يوضح العليوي أن المدينة تقع ضمن “وادي الفرات”، حيث تتركز شبكات ري وصرف زراعي ضخمة تؤدي إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية، خاصة في القسم الجنوبي من المدينة. ويصف التربة بأنها “رخوة ونفوذة تمتص المياه كالإسفنجة”.

 

 

ويلفت إلى أن الكارثة تتفاقم بسبب قرارات التوسع العمراني التي فرضتها السلطات السورية سابقاً، حيث مُنع التوسع الأفقي لأسباب أمنية، ما أدى إلى كثافة سكانية مرتفعة ضمن مساحة صغيرة بلغت حوالي 6×7 كيلومترات حتى عام 2011، تأوي أكثر من 250 ألف نسمة.

 

 

ويوضع العليوي، أن “أساسات الأبنية في أحياء مثل السباهية، الادخار، الدرعية، وشارع النور، تتعرض لمخاطر الانهيار بسبب قرب المياه الجوفية من السطح، إذ تظهر المياه أحياناً على عمق لا يتجاوز متراً ونصف فقط”.

 

 

 

شبكة الأنفاق داخل المدينة

 

وحول ما خفي تحت سطح المدينة، يقول العليوي: “الأنفاق تمتد من البانوراما إلى حي الفروسية، وتمر تحت مشفى التوليد والمشفى الوطني وعدة مدارس وصولاً إلى دوار النعيم، وهي مترابطة فيما بينها، ما يشكل مدينة تحت المدينة”.

 

ويحذر من أن هذه الأنفاق تُترك فارغة خلف الأساسات، ما يجعل أي مبنى معرضاً للانهيار في حال حدوث قصف أو تفجير، وقد يؤدي ذلك إلى سقوط عشرات الأبنية دفعة واحدة، بل حتى زلازل بسيطة بقوة 3 أو 4 درجات قد تكون كفيلة بإحداث كارثة.

 

 

 

الحل مكلف.. ومصيري

 

العليوي يرى أن الحل الجذري يتمثل في “الكشف الدقيق عن مواقع هذه الأنفاق، ووضع خرائط تفصيلية، وحقنها بالخرسانة الهيدروليكية”، وهي عملية مكلفة للغاية قد تتجاوز 65 مليون دولار، ولكنها ضرورية لتأمين المدن من خطر الانهيار، حسب تعبيره.

 

ويختم بالتحذير: “نحن أمام ثلاثة مخاطر مصيرية: تفجير الأنفاق، هزات أرضية بسيطة، وتسرب المياه إليها، وكل منها كفيل بتحويل مدينة مثل الرقة إلى منطقة غير قابلة للسكن”.

 

 

 

الرقة تتألم.. والأهالي يناشدون

 

 

من جهته، يقول الناشط الإعلامي عبود حمام، ابن مدينة الرقة، لمنصة “سطور”، إن الواقع في المدينة لم يعد يُحتمل: “حفر الأنفاق جريمة حرب وانتهاك صارخ لمدينة مرّ عليها دمار لا يحتمل المزيد. الأهالي ما يزالون يشتكون من استمرار الحفر في الأحياء المأهولة، وقد رُصدت تصدعات في الأبنية وتشققات في الطرقات بفعل مرور مركبات ثقيلة مرتبطة بأعمال الحفر”.

 

 

ويشير حمام إلى أن مواصلة “قسد” حفر الأنفاق يُعد خرقاً واضحاً للاتفاق السياسي الأخير مع الحكومة السورية، مضيفاً: “من المفترض أن تكون هناك تهدئة ومرحلة تسليم وتسلم، فما الجدوى من هذه الأنفاق العسكرية؟ استمرارها يزيد المخاوف من أن الاشتباك مع الحكومة ما يزال وارداً، وهذا الأمر ينعكس سلباً على أهالي المدينة الذين لا يبحثون سوى عن الأمان”.

 

 

ويختم بالقول: “أطلقنا حملات إعلامية عديدة لوقف هذه الانتهاكات، لكن لا شيء تغيّر. الوضع لا يبشر بخير، لا اليوم ولا مستقبلاً”.

 

في حديث لمنصة “سطور”، يقول أبو ياسر الحسو، أحد سكان حي غويران في مدينة الحسكة، إن الأهالي يعيشون حالة قلق دائم بسبب شبكة الأنفاق التي باتت حديث الشارع المحلي: “بيوتنا فوق فراغات لا نعرف نهايتها. نسمع عن أنفاق تمر من تحت المدارس والمشافي، وحتى تحت بيوت الناس. قبل أسابيع، ظهرت تشققات في جدار بيتنا، وقال المهندس إنها بسبب اهتزازات تحتية. نحن لا نملك شيئًا غير هذه البيوت، وإذا انهارت، سنكون في الشارع”.

 

 

 

ويضيف أبو ياسر بنبرة يملؤها الخوف: “المشكلة أن لا أحد يتحدث معنا، لا إعلام محلي يشرح، ولا مسؤول يطمئن. هناك أنفاق تُحفر بصمت، ليلاً ونهاراً، ونحن نسمع الحفارات ونرى الشاحنات، لكن لا نعرف إلى أين أو لماذا. هل هناك حرب قادمة؟ لماذا في وسط الأحياء؟”.

 

وختم بقوله: “نحن لا نريد أكثر من الأمان. تعبنا من الحروب والخوف والتهجير. إذا كان هناك اتفاق مع الحكومة كما يقولون، لماذا تستمر هذه الأنفاق؟”.

 

 

 

الأنفاق.. إرث صامت من الحروب يتحوّل إلى قنبلة عمرانية موقوتة

 

شبكة الأنفاق التي حفرتها “قسد” ليست مجرد منشآت عسكرية كما في مناطق الصراع التقليدي، بل تمثل بنية تحتية موازية ومظلمة تنمو تحت أنقاض مدن تعاني أصلاً من هشاشة عمرانية واقتصادية، وتهديد بيئي خطير. ما يجري اليوم ليس فقط انتهاكاً للقوانين الدولية، بل هو خطر وجودي على مدن بأكملها وعلى ما تبقى من النسيج الاجتماعي لسكانها.

 

 

مع كل متر يُحفَر تحت منازل الرقة والحسكة وريفي دير الزور وحلب تُدفن معه آمالٌ بإعادة الإعمار وعودة الاستقرار. والسكوت الدولي والمحلي عن هذه الممارسات، يفتح الباب أمام تكرار سيناريوهات الانهيار الكبرى، التي قد لا تكون بفعل قنبلة أو قصف، بل نتيجة صمت طويل أمام “مدينة تحت المدينة” لا يعرف أحد متى تنهار.

 

 

على مدار أكثر من عقد من الحرب المتواصلة، اتّخذت الأطراف المتنازعة في سوريا من الأنفاق العسكرية أداة للبقاء والمناورة والتخفي، لكنها في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، لا سيما الرقة والحسكة ودير الزور وأطراف حلب، تطورت إلى ما يشبه بنية تحتية أمنية سرية داخل المدن، متغلغلة في طبقاتها السكانية والعمرانية.

 

 

ما بدأ كـ”تكتيك عسكري” تحوّل تدريجيًا إلى شبكة تتقاطع تحت الأحياء المكتظة، وتعمل خارج أي إشراف إداري أو تخطيط عمراني، وهو ما يضع سكان هذه المدن أمام مخاطر لا يراها أحد بالعين المجردة.

 

 

تتزامن هذه التحركات مع تعقيدات المشهد السياسي في شمال وشرق البلاد، فبينما تسعى “قسد” للحفاظ على مكاسبها الجغرافية وسط ضغوط داخلية وخارجية، يبرز خيار “الأنفاق” كأداة رديفة تضمن لها القدرة على الدفاع أو الانسحاب أو تنفيذ عمليات مفاجئة، خاصة في حال تغير ميزان السيطرة أو فشل الاتفاقات مع دمشق أو أنقرة أو واشنطن.

 

 

في هذا السياق، تصبح الأنفاق علامة على غياب الثقة بالحلول السياسية، وتجسيداً لانعدام الشفافية بين “قسد” والسكان المحليين، الذين غالباً ما يكونون الضحايا الصامتين لأي انهيار تحت أقدامهم.

 

 

فالمشكلة لم تعد فقط في الحفر، بل في ما ترمز إليه هذه الشبكات من تعقيد وفوضى وانعدام للمحاسبة. فمع كل متر يُحفر، تتعمق الهوة بين القاطنين فوق الأرض، وبين القوى التي ترسم خطوط نفوذها من تحتها.

شارك