مدونات

الاستراتيجية التركيعية: المجاعة الفتاكة في غزة!

أغسطس 5, 2025

الاستراتيجية التركيعية: المجاعة الفتاكة في غزة!

الاستراتيجية التركيعية: المجاعة الفتاكة في غزة وسط تصميم أمريكي لها وفشل متوقع
الكاتب: مصطفى نصار


المجاعة من شح الطعام والشراب لألاعيب الجوع المميتة في غزة

بشكل عام، تودع غزة 160 شخصًا حتى كتابة هذا المقال، يتشاركون جميعًا في سبب الوفاة، ألا وهو الجوع الناجم عن أضخم مجاعة وأشدها توحشًا في العصر الحديث منذ المجاعة الصينية التي استمرت قرابة 5 أعوام، مسببة قتل 700 ألف صيني سنويًا و55 مليون مصاب بسوء التغذية ماتوا لاحقًا، في دلالة واضحة على أن التجويع سلاح ممنهج نحو خطة أطول للتطهير العرقي والجريمة الهمجية الوحشية التي مورست على عدة مراحل.

وتفاقمت المجاعة على مدار آخر 3 أشهر منذ اختراق “إسرائيل” الهدنة منذ 18 مارس 2025، بدءًا من المرحلة الأولى التي شملت نفاذ الشاحنات المصرية من المساعدات الإنسانية التي نُسِّقت رسميًا بعلم السيسي، ومرورًا بأكل الأعلاف وأوراق الشجر والرجلة وكذلك السلاحف البحرية، وانتهاء بموت الناس من الجوع بطرائق مؤلمة وابتكارية في الموت، سواء قصف أو تصفية منغصة على القلب أثناء تسلمهم كيس الطحين، وكأن الكيان يستقل فيهم الطعام. أي انتقلت المجاعة من مرحلة الشح الغذائي المدقع إلى مرحلة العدم الغذائي الشامل لكل مستلزمات الحياة اليومية مع ارتفاع غير مسبوق في الأسعار.

وبوقاحة معهودة منه، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن التجويع هو استراتيجية “للضغط على حماس لإنهاء الحرب” وإتمام صفقة رابحة بالنسبة له، متحججًا بالذريعة الباهتة القائلة بأن حماس تتخذ المدنيين درعًا بشريًا؛ الأمر الذي استنفر صحفيين إسرائيليين لاعتبار ما يحدث حاليًا “عارًا مطلقًا يجب إنكاره وإلا سيلحقنا للأبد” كما قال الصحفي الإسرائيلي الشهير جدعون ليفي في مقال له بعنوان لافت وبارز: “جوعهم و عارنا”، يحمل فيه ليفي الحكومة المتطرفة، بل والدولة المفترض أنها ديمقراطية، المسؤولية، معتبرًا أنها تتجه للعزلة الدولية شيئًا فشيئًا حتى تحولت “لدولة مارقة مكروهة” بحد تعبير الصحفي المخضرم مهدي حسن.

وكشأن غيرها من الجرائم البشعة عبر التاريخ الحديث والمعاصر، تصنع الدولة المارقة المجاعة لعدة أهداف مهمة واستراتيجية للغاية؛ على رأسها محاولة بائسة أخرى من محاولات عديدة فاشلة ومفلسة لا تدل بقطعية وحتمية إلا على عقيدة “اللاحل” التي يتمتع بها بنيامين نتنياهو على مدار العامين الماضيين، والتي تعد عقيدة مترسخة لديه منذ العام 2002، حتى كتب الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت كتابًا في عام 2008 ونشره تحت عنوان “نتنياهو عقيدة اللاحل”، يضمن فيه الاستراتيجية القائمة حاليًا في حرب الإبادة، وهي بالتأكيد مخفقة وفاشلة.

تتضمن تلك الاستراتيجية الأمنية الغاشمة عدة أهداف قائمة بذاتها على تلك العقيدة المجرمة الوحشية التي تحشر حبالها المترهلة لتحقيق أهداف استراتيجية وعسكرية، من كسر إرادة الصمود والتركيع المعتمد والمقصود للشعب الغزي، وتحديدًا تحقيق الأمل في المعادلة العسكرية الثنائية الكامنة في الخيارين المتاحين “إسرائيليًا”: بين الطرد الفوري والتهجير القسري، أو الحرب اللانهائية على القطاع بمساعدة سخية ومشاركة إيجابية من الولايات المتحدة وأوروبا بكل الأساليب السرية والعلنية، وكذلك بمشاركة وتواطؤ عربي كامل شمل كل الدول العربية والإسلامية إلا زمرة قليلة من الشرفاء المحقين الذين رفضوا بلا شك ولو لبرهة قصيرة بيع ضمائرهم مقابل سلطتهم الفانية وأموالهم المقيتة.


مهاجمة الثور الأبيض حتى ذبحه… هندسة الولايات المتحدة الشيطانية للمجاعة القائمة حتى الآن

في مقال صادم لنعوم تشومسكي وناثانان روبنسون تحت عنوان جدلي “دوامة العنف الأبدي”، نظرا فيه لأطروحة فريدة مكمنها أن الولايات المتحدة لا تريد إيقاف العنف والإبادة القائمة في غزة، بل ستعمل بكافة إمكانياتها الممكنة والمتقدمة لجعل الوضع الراهن أعقد بحيث لا ينفك عنها بغير خيارين: إما الموافقة المهينة بعد طحن وفرم أهالي غزة أو “طرد السكان قسريًا بقدر الممكن”، مطابقة ذلك في هندسة المجاعة الحالية في غزة علميًا واستخباراتيًا.

وتحققت النبوءة بالفعل عبر ذراع الولايات المتحدة الأمني في غزة المتمثل في مؤسسة غزة “الإنسانية” التي لا تختلف قيد أنملة عن معسكرات التفتيش النازية التي فخخت المعتقلات النازية والأفران النارية التي كانت مصممة بغرض التصيد قبل الموت، وصولًا لشهادة بروفيسور الإبادة الجماعية الإسرائيلي عاموس جولدنبرج الذي أكد يقينًا أن المجاعة الحالية سلاح ملحق بالإبادة الجماعية الكبرى، أي تحولت الإبادة الجماعية لمظلة كبرى ممتدة يقع تحتها عدة إبادات مأساوية ومؤلمة: كالأطفال والصحفيين والطاقم الطبي كله دون استثناء، في مشهد منكسر ومظلم يكسر الحجر كمدًا والقلب أشلاءً.

وأتت شهادة الجندي الأمريكي أنتوني أجيلار، وهو جندي أمريكي صهيوني حارب في بلدان عدة منها العراق وأفغانستان وسورية لمدة 25 عامًا حتى وصل لرتبة مقدم مع نيله لعدة أوسمة وجوائز قيمة وفخرية منها وسام القوات الوطنية وغيرها، باعتبارها صفعة مدوية على وجه العرب قبل الولايات المتحدة الأمريكية، لا في قوة وفجاجة الإجرام المبثوث على الهواء مباشرة، بل تخطى الأمر الجنون المتفوق على نفسه حينما حاولت الولايات المتحدة إنكار المجاعة منذ شهر مارس الماضي طيلة 4 أشهر من الحرب الضروس في معسكر اعتقال مفتوح أسوأ وأقبح من أوشفيتز بمئات المرات.

وفي سياق متصل، لم تعد الولايات المتحدة وسيط ثقة فيما يتعلق بالمفاوضات المداراة من ويتكوف ودارمر اللذين هندسا المجاعة وشاركا فيها دبلوماسيًا، عن طريق إعطاء مقترحات مصممة لصالح المحتل، وكذلك ممارسة الحرب النفسية عبر لعبة التصريحات بقرب عقد صفقة وقف إطلاق النار، في تحدٍ صريح وإجرام أكثر ظلمًا وطغيانًا، وكأنهم يريدون قول العبارة بصراحة: “أنتم مخطئون في عدم الاستسلام الحقيقي والانتصار أو حتى الشعور به”، مثلما أشيع في أكثر من تقرير صحفي، في تعبير كامل عن الرغبة في محو القطاع “بطريقة إنسانية مقنعة” كما وصف أستاذ دراسات السلام بول روجيز.

ولا يسعى الأمر من التورط غير ذكر المشاريع “الإغاثية” التي صُممت بعناية بالغة، مثل مؤسسة غزة الإذلالية التي لا تجد موطئ قدم إلا لتحويل مراكز المساعدات الغذائية إلى ما يشبه مسلسل ألاعيب الجوع، وضرب ويتكوف المثال الأبرز في كيفية إخراج العروض المسرحية الهابطة التي دندن بها ترامب، مكررة نفس سيناريو احتلال العراق 2003 لكن الفارق هو استعانتها بنفس مجرمي الحرب كفيليب رايلي وجيمس مونتسنون لينشأ شركتي أمن مشبوهتين “سيف هاوس سلوشنز” و”لاندرد هوم سلوشنز”، مع تطبيق خطط نموذجية من شركة “بوستن للاستشارات” التي أحرقت الملفات بالكامل ونفت علاقتها بالمشروع القذر والحقير دون معرفة أن أول من أشعل النار العارمة أحرقته بشكل مسبب لخسارة استراتيجية بالغة لدى الكيان وحليفه الأكبر.


المجاعة القهرية للأسرى… إخفاق إسرائيلي متتالٍ عنوانه العدالة الإلهية

من أشد المفارقات المشهودة من قبل الاحتلال الإسرائيلي طيلة العام والنصف الماضيين فشله الصريح والذريع الذي لاحقه باستمرار على كل الأصعدة الممكنة، والتي امتدت للسردية التي خصص لها أستاذ تاريخ الإبادة الجماعية الفخري مارتن شو مقالًا مخصصًا تحت عنوان “رأب صدع حاجز الصمت لدعم الفلسطينيين”، يوضح فيه الانهيار المدوي للسمعة الإسرائيلية القائمة على المظلومية التاريخية الراسخة عقب الحرب العالمية الثانية بعد جرائم النازيين فيهم بحسب ادعائهم الهش.

وبهذه المجاعة، أصيب المجتمع الصهيوني بشلل تام، وانقلاب في الموازين تشاحنت فيه المظاهرات الحاشدة التي امتلأت بها الميادين الرئيسية في الأراضي المحتلة من حيفا لعسقلان لإنهاء الحرب فورًا، لأن رئيس الوزراء فقط يريد خوض الحرب اللانهائية ليحافظ على مكاسب وهمية وليبقى في السلطة، ما يهدد الجيش الصهيوني والمجتمع في المحصلة بالانفجار الهادر والمدوي، ولعل هذا الانشقاق الواضح ما ظهر في التصريحات الفاضحة لإيال زاميير رئيس الأركان الذي أكد أنهم لا يستطيعون الفوز في المعارك العسكرية.

وتلك الهزيمة الأولى من ضمن عدة هزائم متكررة طويلة واسعة تنم عن فشل وضيع، معطية بعض التفاصيل الهامة عن صورة لا تعبر بعمق إلا عن العدالة الإلهية التي حولت الحرب اللانهائية، كما قالها الكاتب الإنجليزي آدم شاتز الذي أدرك مبكرًا عقب اغتيال الأمين العام حسن نصر الله لحزب الله عقب اختراقه الأمني وقتل الصف الأول والثاني من القادة المخضرمين، مدخلاً نفسه في حالة من التخبط الدائم وفشل العمليات العسكرية منذ السيوف الحديدية وحتى عربات جدعون التي وصل صدى فشلها للولايات المتحدة في الصحافة الخاصة بها حينما أكدها الصحفي إسحاق دوتشر مع إيهود أولمرت رئيس الوزراء الأسبق للكيان الصهيوني.

أما بالنسبة للحرب من الأنماط الحقيرة الأخرى، فالكيان خسرها خسارة فادحة تغلغلت في جميع بلدان العالم: من قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية، مرورًا بمنع تصدير الأسلحة والاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما يرجعه الباحث معين رباني في مقال حديث له إلى الهيكل التنظيمي للإبادة الجماعية، فضلًا عن الدعم الشعبي الطاغي له، لا باعتباره قضية عادلة أو دينية، بل لكونها قضية إنسانية صقلتها الدماء وغذتها تضحيات الشهداء الكرماء الأفاضل، مختتمة بالصفاقة المعهودة منها التي وضعت مسمار النهاية الرحيمة في نعشها، في تبرير المجاعة الحالية أو إنكارها التام والمنسلخ تمامًا عن الواقع الميداني.

إن تكرار الإبادة بهذا الشكل موجود في التاريخ الحديث دليل عملي على الإفلاس الواسع والانغلاق المحرق لجميع الكروت المتاحة للمُبيد، فيتحول إما لمضغوط عليه أو مجبر مهزوم يرتعش من الاستمرار مقابل الحفاظ على مكاسب طفيفة أو انتصارات صورية، وهو يعلم أن حرب المستضعفين لا فوز فيها ولا تقدم، غير بالسرعة والضغط النفسي وتصميم بيئة قاهرة حربيًا واجتماعيًا مع إغفال عامل العدالة الإلهية القالب للمعادلة، محولة الحرب تمامًا إلى الدفة الأخرى، لتتبوأ القوة الأعلى تسليحًا والأكثر تقدمًا لمجرد رجل واقف على الهواء أو غريق لا يود غير قشة النجاة المستحيلة!!

شارك

مقالات ذات صلة