أدب

“بيت حُدد”.. رواية وطن يتهاوى وسردية تُقاوم النسيان

أغسطس 4, 2025

“بيت حُدد”.. رواية وطن يتهاوى وسردية تُقاوم النسيان

منذ سطورها الأولى، تُقحمنا رواية “بيت حُدد” لفادي عزّام في صلب المفارقة السورية الكبرى: كيف يتحوّل الوطن من مساحة للانتماء إلى عبء ثقيل. بيت يرثه الأبناء يكتنز في جنباته تاريخاً مسطراً، جداراً يشع منه التاريخ، تاريخ سوريا. العنوان نفسه يعلن منذ البدء هذه الازدواجية العنيفة: البيت جذر وتاريخ، وهاوية في آن، كأن الرواية تسألنا منذ البداية عن ثقل التمسك في المعنى، ثقل التمسك في الإرث، الإرث الذي تكالبت عليه العائلة الحاكمة وزبانية الحكم من الداخل والخارج. معنى البيت حين لا يعود مأهولاً، وعن معنى الوطن حين يُختزل إلى عقار.


الرواية لا تُروى من الخارج، بل من عمق الصدع، من داخل بيت مهدّد بالبيع، ومن داخل جسد وطنٍ يتشظى. حكاية فيديل أو فضل، السوري العتيق، بين اليسار واليمين، بين الفضيلة والرذيلة، يلاحق هذه بتلك، ويضيع في خضم التفاصيل على جغرافيا متعددة لم تحمله ولم تسعه. بالتوازي مع حكاية طبيب مغترب يعود لحسم قضية ورث، لكنها ما تلبث أن تتشعب إلى أسئلة كبرى: عن الثورة، عن الهوية، عن الصمت والخذلان، عن دمشق التي أصبحت متاهة من الخرائط والدم، وعن النخب التي عجزت عن حمل ميراثها الثقيل.


في  بيت حدد، تتشابك مستويات السرد: الشخصي بالجمعي، العاطفي بالسياسي، والواقعي بالسوريالي. لا تسرد الرواية ما جرى فحسب، بل تقدّم سرداً بديلاً عمّا لم يُروَ، وتعيد تشكيل التاريخ من زاوية هشّة، إنسانية، بلا شعارات. إنها رواية بيتٍ يتهاوى، لكن صوته يبقى، تماماً كما تبقى سوريا، مشرّدة، لكنها تُكتَب.


 

المنزل جرح مفتوح: سؤال الهوية في زمن التفريط


في رواية بيت حُدد، لا يُطرح البيت بوصفه مكاناً للسكنى، بل كائناً رمزياً يتقاطع فيه الخاص بالجمعي، والمادي بالروحي. عودة أنيس من منفاه لا تأتي بدافع الحنين، بل بضرورة قانونية لحسم مصير عقار ورثه عن خاله. غير أن هذا البيت، المعلق في زوايا دمشق القديمة، ليس مجرد جدران؛ هو اختزال لذاكرة مدينة بأكملها لتاريخ سياسي عريق خُطَّ بين جدرانه وصدى لصوت أسئلة كبرى: هل ما زال بالإمكان الحفاظ على ما تبقّى من البلاد؟ وهل حفظ الإرث يكون ثمنه باهظ إلى هذا القدر في بلاد تهين الغالي وتسحق النفيس؟.


صراع أنيس مع البيت هو في جوهره صراع مع ذاته، مع انتمائه الذي تآكل في الغربة، ومع وطنه الذي لم يعد يعرفه. السوري الذي ضاقت به بلاده ولم تسع لأحلامه فغادر نحو العالم المشتهى والمدن الكبيرة الواسعة،  تدور حوله شخصيات ترى في البيت بوصلةً للهوية: لا يُباع لأنه ليس ملكاً، بل ميراثاً معنوياً، ذاكرةً لعائلات، وتاريخاً لحيّ، وهويةً لمدينة تنهار، بيتاً للإله أدد، إله الصواعق الذي سكن دمشق وفقاً للأساطير.


بين قرار البيع والتشبث، تتشكّل معادلة روحية تعكس ما عاشه السوري حتى قبل الثامن من كانون الثاني/ ديسمبر: بين من يُفكك البلد حجراً حجراً باسم الواقعية، ومن يتمسّك بما تبقى دفاعاً عن فكرة الوطن.


الرواية تكشف النظام السوري البائد، من خلال تسليط الضوء على المعتقلات، على تجارة الأعضاء، على احتكار التجارة والاقتصاد لمن هم منه، وإقصاء كل ما عدا ذلك، الرواية تعرّي الحقيقة التي حاولوا أن يقدموا سرديةً مختلفة لها طوال فترة حكمهم، يُستخدم فيديل السوري العتيق في خدمة هذه السردية الواهنة حتى يكتشف أنه شارك في الدماء بشكل أو بآخر فتنقلب حياته رأساً على عقب محاولاً تبرئة نفسه من ذلك في ظل صراع نفسي عميق وممتد.



السرد لا يموت: الثورة في حضن الحكاية

لا تتعامل الرواية مع الثورة على أنها حدث ماضٍ أو خلفية زمنية، بل تجعلها جوهر الحكاية وبدايتها، نبضها الحي. تبدأ الثورة كموجة حماسية في الشارع، ثم تتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً: مشافٍ ميدانية، تنظيمات مدنية، لاحقاً فصائل وجماعات ارهابية متشددة حاربت الثورة وحاولت تمزيق الحلم محاولة تشكيله على نحو مأساوي. لكن الرواية لا تسرد هذا التحوّل لتعلن نهاية الثورة، بل لتسجّل ما تبقى منها في الذاكرة، بإظهار السوري الثائر الأصلي، متمسكاً بالثورة و بقضيته الرابحة، ناكراً كل من يحاول الهزيمة ويدّعيها. أولئك الذين انطلقوا من الشمال، فحرروا البلاد ووسعوا رقعة الحرية.


في مقابل انهيار الواقع، يبقى السرد حيّاً، شاهداً لا يموت. الشخصيات التي قاومت، التي واجهت، التي آمنت، قد لا تبقى على قيد الحياة، لكن حكاياتها تُكتَب وتُدوَّن وتُحفَظ. وهنا يظهر جوهر المفارقة: الانتصار ليس في بقاء الثورة كقوة فقط، بل في تحوّلها إلى أثر مكتوب، إلى بيت داخل اللغة، عصيّ على الهدم.



صوت واحد لا يكفي: الحكاية من داخل التعدد السوري

تتقدّم سوريا في بيت حدد لا كجغرافيا، بل فسيفساء إنسانية مركّبة، تتعايش فيها الفروق الطائفية والطبقية لا بوصفها تهديداً، بل أصلاً في التكوين. لا تسعى الرواية إلى تقديم خطاب الوحدة، لكنها تُظهر التنوع بوصفه واقعاً أساسياً، حاول الكثيرون استغلاله باثّين الفرقة والتفرقة بين مكونات المجتمع السوري الشامل. تظهر الشخصيات من خلفيات مختلفة: سنّة، علويون، دروز، مثقفون، مناضلون، مقاتلون، مهجّرون، ويواجه كل منهم الكارثة من موقعه، وبأسلوبه الخاص، دون أن يكون أحدهم ممثلاً لصوت نهائي.


دمشق، كما يرسمها النص، ليست عاصمة موحدة، بل مدينة منكسرة، تتوزعها التناقضات وتتماوج فيها الأقدار: من بيوت الأحلام إلى أقبية الرعب، من الشوارع المحتشدة بالأمل إلى الأزقة التي تبتلع المعارضين. كل مكان في الرواية يعبق بالتاريخ، يُسطّر المجد ويّنقّب بالإبرة عن أساطير هذه البلاد المنيعة، التي حوّلها نظام البعث فترة حكمه إلى مزرعة شخصية ومكان عبثي.


اللغة بسيطة، لكن أثرها بالغ، تُعري دون أن ترفع الصوت، وتفتح المجال أمام قارئ يرى المأساة لا في عظمتها، بل في تفاصيلها. السريالية هنا ليست اختياراً فنّياً، بل انعكاساً لواقع يتجاوز المعقول: جراح يعالج القتلى ويوقّع على موتهم، وطن يعيش بتعدد مكوّناته، لكنه يُحتضر بصوت جماعي خافت لا يُنقذ أحداً.


هل نملك ما لا نستطيع الدفاع عنه؟


في بيت حدد لا يُعرض البيت كعقار يُباع أو يُورث فحسب، بل مرآة رمزية لوطنٍ يتداعى. التوازي بين مصير البيت ومصير الوطن ليس مجرّد تشبيه بلاغي، بل محور بنيوي في الرواية. فالسؤال الذي يطارد أنيس: “هل أبيع؟”، هو ذاته كان سؤال الجيل بأكمله: “هل نفرّط بسوريا؟”. من خلال هذا الصراع، تعيد الرواية تعريف مفهوم الوطن: ليس تراباً ولا جدراناً، بل تراكماً شعورياً وتاريخياً لا يُقاس بالملكية، بل بالمعنى. معنى أن تكون سورياً، لك في هذه الأرض حق، حتى إن حاول النظام البعثي سرقتك بالبطش والسوط والحديد والنار.


أنيس، بشكّه وتردده، لا يخون، بل يُمثّل النخب المثقفة التي وقفت أمام المأساة السورية دون يقين. ليس الطغيان هو الذي هزمها، بل الفراغ، والاغتراب، والشعور بأن لا شيء يستحق الدفاع -وإن حاو- فغدى بعد التشبث، في غياهب السجن وطي النسيان، حاله كحال الملايين من المغيبين قسرياً الذين عارضوا بالكلمة والفعل وقالوا ما لا يريده السفاح.


تحول قرار أنيس إلى فعل رمزي: ليس قراراً مالياً، بل اعترافاً بالعجز عن حماية البيت/ الوطن. فساوم على البيت مقابل الحياة.


رواية في وجه المحو: بيت الثورة الذي لا يُهدم

لا تُعرض الثورة كحدث سياسي عابر، بل حكاية تُروى لتبقى. لا تسعى الرواية إلى تسجيل الوقائع بترتيبها الزمني، بل تُعيد امتلاكها عبر السرد، بوصفه أداة مضادة للنسيان. ففي مواجهة العنف، يصبح الأدب شكلاً من أشكال المقاومة الهادئة، حيث لا مكان للبطولات الصارخة، بل للهشاشة، للندوب، وللشجاعة التي لا تظهر إلا في التفاصيل اليومية.

بيت حدد ليست رواية عن الثورة، بل من داخلها، نص متماسك في عالم يتآكل فيه المعنى، تصبح الكتابة فعل إنقاذ رمزي كمن يتشبث بالحقيقة وسط العاصفة.



في حضن الكلمات ينام الوطن

 تتحول الرواية إلى تأمل عميق في الزمن السوري بكل ما فيه من فقدان وانكسار. الحبّ فيها لا يكتمل، والذاكرة مثقوبة، والخراب لا يأتي من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضاً. بشللية النظام البائد وإجرامه الشره، وفساد اقتصادي عرفته سوريا إبّان حكم الأسد. ومع ذلك، لا تُغلق الرواية على اليأس، بل تترك فسحة مفتوحة: بيتٌ جديد لا تقيمه الطين والحجارة، بل تبنيه اللغة.

ذلك البيت، المحفوظ في السرد، لا تدمّره القذائف. فادي عزّام لا يقدم انتصاراً تقليدياً، بل يؤكد أن الحكاية إن كُتبت بصدق تبقى.



بيت حدد… رواية دمشقية بامتياز

في النهاية، تظل بيت حدد رواية دمشقية بامتياز، مشبعة بروح المدينة وتفاصيلها التاريخية، حتى ليبدو أن كاتبها قرأ تاريخ المكان صفحة صفحة قبل أن يشرع في نسج حكايته. غير أن النص، لا يخلو من بعض الحوارات التي تتناول ثيمات العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل مباشر ومبالغ فيه، وهو ما قد لا يضيف كثيراً إلى السياق السردي. كما أن حضور العامية السورية بكثافة وإن كان يمنح الرواية نكهتها المحليّة الأصلية، لكنه قد يُربك القارئ غير السوري فيصعب عليه متابعة الحوار وفهمه على نحو كامل. ومع ذلك، تبقى قوة الرواية في قدرتها على إعادة صياغة المأساة السورية عبر لغة بسيطة لكنها بالغة الأثر، تجعل من البيت رمزاً لوطن يتداعى ومن الكتابة فعل مقاومة في وجه النسيان.

شارك