آراء

المعارضة الحقيقية الجادة!

أغسطس 4, 2025

المعارضة الحقيقية الجادة!

في مقال الأسبوع الماضي كتبت عن “المعارضة الوظيفية النصابة”، وقد جاهدت نفسي لتقديم أوصاف علمية دقيقة للتدليس والنصب السياسي بأكثر الكلمات تهذيبًا، دون تواطؤ على المدلسين والنصابين، هذا لأن الأدب والاحترام في الحوار وفي الكتابة وإن لم يستحقه حتمًا من وصفتهم، فإنه ما يليق بأن يقدم إلى حضراتكم وتقرأونه.

اليوم أكتب عن المعارضة الحقيقية الجادة، ولكل صفة من الاثنتين مقتضيات، كما أنها تُرتب على أصحابها مسئوليات وواجبات، ما يعني أن مقال اليوم عن المعارضين من أصحاب الإرادة المستقلة أيًا كانت مرجعيتهم وسواء اختاروا مقاطعة الانتخابات القادمة، أو أية انتخابات، أو المشاركة فيها، خاضوها منفردين أو متحالفين مع من يجمعهم بهم أفكار أو على الأقل أهداف مشتركة أبسطها ما ينص عليه أي تعريف محل اعتبار لكلمة “معارضة” اتساقًا مع المبادئ السياسية الأساسية والممارسات السياسية السوية في أي مكان وزمان، واستنادًا للمادة الخامسة من الدستور المصري، والمتفقة مع دستور أي دولة وطنية مدنية ديمقراطية حديثة.


في رأيي لكي يصح وصف كلمة حقيقية لأية حركة أو حزب معارض فإنها لابد أن تقدم نفسها كبديل للسلطة لا كتابع ولا حتى حليف لها، إذ أنها في الحالة الثانية تصبح علميًا وعمليًا جزءًا من تحالف الموالاة بصرف النظر عما تسمي نفسها إرضاءً للناخبين وكذبًا عليهم لأنها تدرك فشل السلطة ورفض الجماهير لها، هذه الجماهير التي تتملقها بالكذب والإدعاء نهارًا في العلن، وتلك السلطة التي تسترضيها وتستجديها مساءً وبما لم يعد سرًا. ولا يُشترط أن تكون المعارضة الحقيقية قادرة على أن تحل وحدها أو في ظل تحالف سياسي محل السلطة حالًا أو حتى في الأجل القريب، إذ يكفي أن تكون صاحبة رؤية وبرنامج وتحاول إقناع الناخبين بهما وتسعى لكسب ثقتهم انتظارًا للوقت الذي تحصل فيه على أغلبية أصواتهم في انتخابات حرة نزيهة تنقلها من موقع المعارضة إلى موقع السلطة، وتنقل تلك الأخيرة إلى صفوف المعارضة، ويكون الشعب في كل الأحوال هو السيد في الوطن السيد، وهو صاحب الحق والكلمة العليا في اختيار من يحكم وكيف يحكم تحت سقف الدستور والقانون.


أما صفة الجادة فهي تستلزم سعي المعارضة واستمرار محاولاتها بصدق ودأب، حتى وإن تحملت البطش والعنت وفساد المناخ وغياب القواعد العادلة، إذ أن هذا الواقع يحتاج إلى نضال سياسي يحمل عبئه مناضلون هم من يستطيعون في نهاية تلك المرحلة، طالت أو قصرت، صغرت ضريبتها أو كبرت، أن يصنعوا التحول الديمقراطي الذي يؤسس للعمل السياسي في بيئة طبيعية لا يبقى فيها الكثير من المآسي التي نعيشها الآن، ولا يشترط في ذلك أن تتساوى أسقف المعارضة ولا حدتها ودرجة جذريتها، كما لا يُقيَّم بالضرورة أبطال تلك المهمة في مسار بناء دولة القانون والمؤسسات بحجم ما قدموه من تضحيات، رغم دلالات ذلك في كثير من الأحيان، إذ أنك قد تجد من المخلصين الجادين من عافاه الله من الأذى البالغ، ومنهم من دفع الثمن الفادح، بنسب متفاوتة وصور مختلفة.


وتبقى جدلية المشاركة أو المقاطعة عند كل استحقاق انتخابي، ويظل لكل رأي وجاهته في ظل الواقع السياسي والأمني والقانوني والإعلامي والإجرائي المؤسف الذي نعيشه اليوم. إلا أن الانتقال من حالة الحركة الاحتجاجية (وهي حق لمن يقتنع بها) إلى مستوى المشروع السياسي إنما تتطلب أن يأتي كل قرار أو فعل تكتيكي في إطار رؤية استراتيجية، بمعنى أن تكون المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها جزءًا من خطة أصحابها لتحقيق الأهداف القريبة والبعيدة، لا مجرد إبراء الذمة والتطهر عند المقاطعين، أو الانغماس والاستسلام للواقع الظالم والقواعد الجائرة لدى المشاركين. بمعنى أنه يحق للمحتج أن يكتفي بالرفض لكن يجب على صاحب الرؤية ومشروع الإصلاح أو التغيير أن يفكر وماذا بعد؟ كيف يكون قراره خطوة في طريق كفاحه من أجل إزالة هذا الواقع البائس وبناء المستقبل الذي يدعو له، والذي يحتاجه الشعب ويتطلع إليه.


وإذا كان من الواجب الأخلاقي والموضوعي فضح الألاعيب السياسية القذرة والتحذير من أصحابها النصابون حتى نُبصِّر الناس أولًا، ونتمكن ثانيًا من بناء تحالفات سياسية وانتخابية حقيقية وجادة، فإنه من المعيب والمستنكر الإساءة لأصحاب الاجتهادات المخلصة من أصحاب الضمير الوطني والإرادة الحرة سواء اتفقنا مع محاولاتهم أو اختلفنا، فتكون الفضيلة هنا استذكار القاعدة بأن يساعد بعضنا بعضًا فيما اتفقنا عليه وأن يعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه.


وتبقى لنا عودة -بإذن الله- مع ما يروج له البعض بنوايا طيبة لا تخلوا من نقص في المعلومات ومعرفة بالوقائع، أو من يفعلون ذلك لحاجة في نفوسهم المغرضة، أو لأوامر لا يملكون رفضها ولا حتى مناقشتها، أو في أقل الأحوال ما يردده بعض من لا يزالون يتمتعون بنعمة الستر في عيون الناس وذلك لتبرير تخاذلهم عن القيام بواجبهم الذي يدَّعون الوفاء له، ونكران عهودهم التي يشهد عليها من كانوا زملاءهم يومًا ما، أو لطلبهم الأمان أمام احتمال دفع ثمن المبدأ، لا البطولات المجانية التي يصنعها الكلام الفخيم الأجوف والذي يَعِدُ أصحابه أصحاب الأمر والنهي ألا يتجاوز حدود الكلام (طق الحنك)، أو تقديمهم المشاريع الشخصية والمنافع الذاتية على المشروع الوطني والمصلحة العامة.. ولنا في كل ذلك وقفة للتاريخ مع ٣ محطات فارقة كنت شريكًا فيها وشاهدًا عليها: انتخابات رئاسة الجمهورية ٢٠١٨ – تحالف الأمل لخوض انتخابات البرلمان ٢٠٢٠ – انتخابات رئاسة الجمهورية ٢٠٢٣.

شارك

مقالات ذات صلة