مدونات

تماهي الضحية مع الجلاد: كيف يُروّض القهر وعي الفلسطيني؟

أغسطس 4, 2025

تماهي الضحية مع الجلاد: كيف يُروّض القهر وعي الفلسطيني؟

للكاتبة: شهد الشريف


في مقال سابق، تحدثتُ عن التطبيع النفسي مع الألم في الضفة الغربية كآلية دفاع جماعية تساعد الناس على الاستمرار وسط ويلات المجازر في غزة. اليوم، أعود بسؤال أكثر وجعًا: كيف وصلنا لحالة نُشبه فيها المحتل، بوعي أو دون وعي؟ كيف تحوّل القهر إلى صمت، ثم إلى تواطؤ؟ ولماذا أصبح المقاوم في الضفة اليوم ملاحقًا من عدوين بدلًا من واحد؟ هذا المقال يستند إلى أفكار مصطفى حجازي في ثنائيته “الإنسان المقهور” و”الإنسان المهدور”، ويستنير بمقالات الشهيد باسل الأعرج في كتابه “وجدت أجوبتي”، لفهم الحالة النفسية والسياسية للواقع الفلسطيني في الضفة الغربية.


الإنسان المقهور والهدر الداخلي

يصف مصطفى حجازي “الإنسان المقهور” بأنه الكائن الذي خضع طويلًا لقمع ممنهج، ففقد الثقة بذاته، وبدأ يشكك بقدرته على التغيير. هذا القهر، حين يُترك دون تفكيك، يتحول إلى “هدر” لا للطاقات فقط، بل للكرامة والهوية وحتى الإحساس بالجدوى. في الضفة الغربية، نرى هذا النموذج حيًّا. فالاحتلال خلق منظومة قهر دائمة: حواجز، اعتقالات، تهديد يومي. ومن الجهة الأخرى، جاءت السلطة الفلسطينية لا لتشكل حماية، بل لتكمل منظومة القهر بشكل ناعم، عبر البيروقراطية، القمع الأمني، وتفكيك أدوات الفعل الجمعي.


تأثير غير مباشر أخطر من المباشر

كتب باسل الأعرج: “ينقسم المجتمع الفلسطيني إلى قسمين حسب تعرضهم لتأثير الاحتلال، قسم يتعرض لتأثير مباشر وقسم لتأثير غير مباشر، ولا أبالغ أبدًا إذا قلت إن بعض الناس الذين يتعرضون للتأثير غير المباشر يكادون لا يعرفون (أو الأصح لا يشعرون) أن هناك احتلالًا إلا عبر شاشات التلفاز.” الاحتلال لم يعد يراه البعض كتهديد حقيقي؛ تم ترويض الناس على الخوف، على الصمت، على تجنّب السياسة. أصبح كثيرون يرفضون المقاومة بزعم أنها “لا تجلب إلا الخراب”. وهذا تمامًا ما يريده المحتل: أن نعيد إنتاج قهرنا بأنفسنا.


التماهي: حين نُعيد لغة الجلاد

في حالة القهر المزمن، يبدأ الإنسان المقهور في التماهي مع جلاده، يتبنى لغته، يخاف منه، يحاول إرضاءه، بل أحيانًا يدافع عنه، في محاولة لا شعورية لحماية النفس. يشير حجازي إلى أن “الإنسان المقهور يراهن على خلاصه على يد الزعيم المنقذ دون أن يعطي لنفسه دورًا في السعي لهذا الخلاص، سوى دور التابع المعجب المؤيد دون تحفظ، والمنتظر للمعجزة.” في الضفة، أصبح كثيرون يتحدثون لغة الأمن، يحذرون من الفوضى، يخافون من “التحريض”. هذا التماهي هو انعكاس لغياب الثقة بالذات الجماعية، ولإحساس داخلي عميق باللا جدوى، وكأننا نعيد تعريف السلامة بأنها: لا تتحرك، لا تتكلم، لا تحلم.


من الانسحاب إلى الخدر

حين يُقهر الإنسان طويلًا، ثم يُهدر، يُصاب بفقدان المعنى. يفقد الإيمان بالقدرة على التغيير، ويصبح الانسحاب أو الصمت أو حتى الترفيه الزائف هو وسيلته الوحيدة للهرب. يقول حجازي: “من الشائع أن يتجنب الإنسان المهدور الحاضر الذي يضعه أمام مأزقه وعجزه عن التعامل معه، إما في الهروب في أحلام اليقظة المستقبلية، أو من خلال الاحتماء بأمجاد الماضي.” وهذا ما نراه اليوم في الضفة: الحياة اليومية تنفصل عن واقع الاحتلال، ويصبح الروتين وسيلة للهروب، والترفيه وسيلة لدفن الأسئلة. لكن هذا الإنكار لا يُلغي الوعي، بل يدفنه حيًّا، ليظهر لاحقًا على شكل قلق، اكتئاب، أو حتى غضب داخلي لا يجد طريقه للخارج.


المقاومة تبدأ من استعادة الوعي

المقاومة الحقيقية تبدأ من الوعي، من الاعتراف بأن ما نعيشه ليس طبيعيًا، وأن الخوف المُطبع ليس قدرًا. من حقنا أن نغضب، أن نسأل، أن ننتقد، أن نرفض الخوف المفروض علينا. باسل الأعرج دعا دائمًا إلى فهم الواقع كخطوة أولى نحو تغييره، وكان يقول، خاتمًا وصيته: “فلتبحثوا أنتم”. لا تحيل هذه الجملة الطلبية إلى تلغيز، بقدر ما تحض على الفعل والاستئناف، فقيمة فعل الشهيد لا تتحدد فقط بما أنجزه، وإنما أيضًا بما أراد أن ينجزه.


من الضحية إلى الفاعل

وأنا اليوم، كخريجة خدمة اجتماعية، وأطمح أن أكون معالجة نفسية تحليلية، أؤمن أن دورنا هو إعادة الوعي إلى النفوس المُنهَكة، وبناء الحصانة النفسية والفكرية ضد هذا الترويض الجماعي للشعب الفلسطيني. نحن لسنا ضحايا فقط، نحن بشر نحاول أن نعيش بكرامة في واقع مفروض. والتماهي مع الجلاد ليس قدرًا، بل عرض قابل للتفكيك. دورنا أن نُسائل، أن نُفكك، أن نرفض أن يُحاصر وعينا كما حوصرت غزة. فكما قال باسل الأعرج: “كن مثقفًا مُشتبكًا”، وأنا أضيف: وكن إنسانًا واعيًا، يعيد تعريف القوة، لا كغلبة، بل كقدرة على البقاء نقيًا، حرًا، رغم القيد.

شارك

مقالات ذات صلة