مدونات

صاحبُ البُردةِ (3) .. هل تَسْتَحِقُّ البُردة هذا الجَدَل؟

أغسطس 3, 2025

صاحبُ البُردةِ (3) .. هل تَسْتَحِقُّ البُردة هذا الجَدَل؟

للكاتب: هادي عبد الجواد

 

توقَّفنا في المرَّة الماضية عند نظم البُوصيريّ لقصيدة الهمزيَّة، وهي أطول ما كتب في باب المديح النبويّ، هذه القصيدة مختصر للسيرة النبويَّة، يقول البوصيريّ فيها:

فَهنيئاً به لآمِنَةَ الفَض                    لُ الذي شُرِّفَتْ به حوَّاءُ


هنا يتحدَّث عن أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، السيدة آمنة بنت وهب، وأنّها حازت من شرف الولادة فهنيئًا لها لأنّها أتت بسيِّد الخلق، ولم يأت بمثله أي سيدة من بنات حواء، ويتحَّدث عن ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:

رافعاً رأسَه وفي ذلك الرفع                 إلى كل سُؤْدُدٍ إيماءُ

رامقاً طَرْفه السَّماءَ ومَرْمَى               عينِ مَنْ شَأْنُهُ العُلُوُّ العَلاءُ

هنا يصف ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول أنَّه وُلِد وهو يرفع رأسه تجاه السماء، -وتلك الرواية جاءت من حديث رواه ابن السيدة حليمة-، وهو يرمق بطرفه السماء، وهكذا هو حال ذوي الشأن العالي، أعينهم تكون باتجاه كل شيء عالٍ.

آلَ بيتِ النبيِّ طبتُم فطابَ الْ             مَدْحُ لِي فيكُمُ وَطابَ الرّثاءُ

أنا حَسَّانُ مَدْحِكم فإذَا نُحْ                  تُ عليكمْ فإنَّنِي الخنساءُ

هنا يمتدح آل بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيقول كما زاد بهاؤهم وحسنهم، يزيد بهاء المديح وحسنه، ثم يشبِّه نفسه بحسَّان بن ثابت في المديح و الخنساء في الرثاء، ثم يكمل في الهمزيَّة، فيتحدث عن حادثة محاولة تسميم الرسول، فيقول:

ثم سَمّتْ له اليهوديَّةُ الشَا                 ةَ وَكم سَامَ الشِّقْوَةَ الأَشقِيَاءُ

فأَذاعَ الذِّراعُ مَا فيه مَن شر              رٍ بِنُطْقٍ إخفاؤُهُ إبداءُ

تلك كانت بعض أبيات الهمزيَّة، لكن تظلُّ البُردة أشهرَ قصائده، بما جمعت من معانٍ وحملت من جدل، وسمَّاها البوصيريّ “الكواكب الدريَّة في مدح خير البرية”.

بداية الجدل كانت بمواضيع البُردة، فالفصل الأول كان في الغزل وشكوى الغرام، ثمَّ التحذير من هوى النفس، وهذه الأغراض لم تكن ملازمة للمديح النَّبويِّ قبل البوصيريِّ، إذ يقول في مطلعها:

أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ        مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

هنا يتذكَّر جيرانًآ له بمنطقة ذي سَلَم، وهي بين مكة والمدينة، ويقول أنّ الدمع ممزوجٌ بالدم، كناية عن كثرة البكاء، وينتقل في شكوى الغرام فيقول في البيت الثامن:

وَأَثْبَتَ الْوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنًى            مِثْلَ الْبَهَارِ عَلَى خَدَّيْكَ وَالْعَنَمِ

هنا يقول أنَّ الحزن بسبب الحبِّ جعل له خطَّين من الدموع، والبهار هو الورد الأصفر، والعنم هو الورد الأحمر، أي أنَّ خطي الدموع جعلا وجهه يبدو عليه صفرة المشتاق وحمرة المحبّ.

بعض شُرَّاح القصيدة فسَّروا أنَّ الجيران الذين قصدهم في أول البيت هم النبي والصحابة ولكن هذا ليس صحيحًا، ففي البيت السابع عشر يقول:

مَنْ لِي بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غَوَايَتِهَا          كَمَا يُرَدُّ جِمَاحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ


وهنا يندم على أنَّه لم يكبح جماح نفسه حين تذكر الأحبَّة الذين هم كانوا بذي سلم، ومعنى ذلك أنه كان يتغزَّل فعلًا ولم يكن يقصد الرسول أو الصحابة.

ومما يميِّز البُردة إضمان البوصيريِّ للأمثال التي تجري مجرى الحكمة دون أن يجعل المتلقِّي يشعر بنفور، يقول في البيت الثاني عشر:

مَحَضْتَنِي النُّصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ                     إِنَّ الْمُحِبَّ عَنِ الْعُذَّالِ فِي صَمَمِ

لكن أكبر جدل صاحب القصيدة، قصة إصابة البوصيريِّ بالفالج، ونظمه لهذه القصيدة وشفائه، روى ابن شاكر الكتبي عن البوصيريِّ أنَّه قال:

“أصابني فالج أبطل نصفي ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني وكرَّرت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسَّلت ونمت فرأيت النبي ﷺ فمسح على وجهي بيده المباركة وألقى عليَّ بُردة. فانتبهت ووجدت في نهضة فقمت وخرجت من بيتي”

هذه القصَّة لم تصح، لأنَّ البوصيريَّ لم يُصب بالفالج أصلًا، وهناك قصَّة أخرى أوردها ابن حجر الهيتمي تذكَّر إصابة البوصيريّ بالرمد وبعد نظمها رأى النبي في المنام فقرأ عليه شيئًا منها، فتفل الرسول في عينيه فبرأ منها، وهذه القصة أيضًا لم تصح، وبالتالي لم تصح قصَّة إعطاء الرسول صلَّى الله عليه وسلَّّم للبوصيريَّ البُردة في المنام.

لكن سمّاها البوصيريّ البُردة ليتبرك بها تيمنًا ببردة كعب، يقول البوصيريُّ:

نسجت برود بلاغتيه وأبدت             الإبداع في الآساد والآجام


من الأمور الجدليَّة أيضًا، ما قيل عن البوصيريِّ مبالغته في مديح رسول الله، وهو ما تنفيه البُردة، يقول البوصيريُّ:

فَهْوَ الَّذِي تَمَّ مَعْنَاهُ وَصُورَتُهُ              ثُمَّ اصْطَفَاهُ حَبِيبًا بَارِئُ النَّسَمِ

مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ فِي مَحَاسِنِهِ             فَجَوْهَرُ الْحُسْنِ فِيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

يقول واصفًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كمل خَلْقًا وخُلُقًا وتمَّت صورته الظاهريَّة، فاصطفاه الله خالق الخلق، ثم يكمل عن الرسول فيقول: هو منزَّهٌِّ عن أيِّ شريك في كلِّ محاسنه، لأنّ الحُسن في رسول الله صلى الله عليه وسلم جوهر وليس عرضًا، وهنا شعر البوصيريّ ينفي أنَّه بالغ في مدح الرسول فقال في البيت التالي:

دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمِ         وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

أي أنّنا إذ نَّزهنا عن رسول الله شركة أي مخلوق في حُسنه فلا يصحُّ أن نبالغ في الإطراء، كما فعلت النَّصارى مع عيسى ابن مريم، فهو لا يريد أن يجعل المتلقِّي يشعر بحرج، حين يلحظ مبالغة المديح في البيتين السابقين.

ومن الأمور الجدليَّة التي صاحبت البُردة، تكفير الكثير ممن علَّقوا على القصيدة للبوصيريَّ بزعمه وضع الرسول في مكانة أعلى، قاصدين هذه الأبيات:

يَا أَكْرَمَ الرُّسْلِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ         سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَادِثِ الْعَمَمِ

وَلَنْ يَضِيقَ رَسُولَ اللهِ جَاهُكَ بِي         إِذَا الْكَرِيمُ تَحَلَّى بِاسْمِ مُنْتَقِمِ

فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا            وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ


يقول البوصيريُّ في هذه الأبيات مخاطبًا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لائذًا به في يوم القيامة، مشيرًا إلى عدم ضيق جاه رسول الله به، عندما يتجلَّى الله الكريم بصفة المنتقم، ثم يُعلِّل في البيت الثالث ما قال في الثاني، لأنّ من جودك الدنيا الهداية، وجودك في ضرتها الآخرة الشفاعة ومن علومك علم اللوح والقلم، أي من علم الله الذي يختص به الله بعض البشر من خلقه.

يقول الشيخ محمد سعيد البوطي –رحمه الله- في تعليقه على هذه النقطة:

“طلب الشفاعة من الرسول ﷺ هو غاية التوحيد، لأنّنا نؤمن أنّ الرحمة مهداة من عند الله، لكنَّ الله شاء أن تكون هذه الرحمة بواسطة رسول الله ﷺ”

ولكي نلحظ أنّ المعنى عادي جدًّا، هناك بيت لشوقي يحمل نفس المعنى، هو البيت الأربعون في نهج البُردة:

ألقى رجائي إذا عزَّ المجير على        مُفَرِّجِ الكرب في الدَّارين والغمم


لم يثر هذا البيت نفس الجدل الذي ثار بسبب بيت البوصيريِّ، ربما لأنَّ بُردةَ البوصيريِّ غطَّت على جمالها الخلافات المذهبيَّة، لكن إذا تركنا الخلافات المذهبيَّة، نجد أبيات البُردة حاضرةً بقوة في العمارة الإسلاميَّة في مصر والمغرب، في مصر نجد بيت السحيمي، وفي المغرب قصر الباهية بمراكش، وفي ضريح مولاي المكِّي بالرباط، ليست في العمارة الإسلاميَّة فقط، بل في المناسبات نجد البُردة حاضرةً أيضًا، في إحياء احتفالات الموالد النَّبويّ وليالي الحِنَنْ بإنشاد النَّاس لبعض أبيات البُردة، وليست البُردة وحدها التي يتغنَّى النَّاس بها بل كثير من المدائح النبويَّة لكثيرٍ من الشعراء، فالمديح النّبويُّ صار غرضًا من أغراض الشعر في تراثنا العربيِّ، وفي المرَّة القادمة سنتكلم عن شاعرٍ آخر من شعراء المديح الِّنبويِّ.

شارك

مقالات ذات صلة