آراء
منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كرئيسٍ للولايات المتحدة (الرئيس السابع والأربعين) في يناير 2025، شرعت إدارته في تنفيذ حملة ترحيلٍ جماعيّ غير مسبوقة للمهاجرين غير النظاميّين، مُسوِّغة ذلك بمزاعم حماية الأمن الداخليّ. إحدى أكثر سياسات هذه الحملة إثارةً للجدل هي مشروع “الترحيل إلى دول ثالثة”، الذي يقضي بإرسال بعض المهاجرين المُدانين بجرائم إلى دول لا تربطهم بها أي علاقة جنسيَّة أو وطنيَّة، وخاصة في أفريقيا.
ففي 4 يوليو 2025، على سبيل المثال، قامت واشنطن بترحيل 8 مهاجرين إلى جنوب السودان –رغم ما تعاني منها كدولة مزقتها النزاعات– وذلك بعد أن صادقت المحكمة العليا الأمريكيَّة على هذه الخطوة إثر معركة قضائيَّة طويلة. ولاحقًا، في 16 يوليو، رحّلت إدارة ترامب خمسة مهاجرين مدانين من جنسيات مختلفة (فيتنام، لاوس، اليمن، كوبا وجامايكا) جوًّا إلى مملكة إسواتيني في أفريقيا الجنوبية، مبررةً هذا الإجراء بأنَّ دولهم الأصلية رفضت استقبالهم بعد انتهاء محكومياتهم في أمريكا. وقد وصفت وزارة الأمن الداخليّ الأمريكيَّة هؤلاء المُبعَدين بأنَّهم “أجانب مجرمون مقيمون بصورة غير نظاميَّة“، وادّعت أنَّ بلدانهم رفضت استعادتهم نظرًا لخطورة جرائمهم. هكذا وجدت دول أفريقية نفسها فجأةً تستقبل أشخاصًا غرباء عنها تمامًا، فقط لأنَّ الولايات المتحدة لا ترغب في بقائهم على أراضيها.
إفريقيا كمكبّ نفايات لبقايا الإجرام الغربي؟
أثارت هذه السياسة موجة غضب ورفض عارم في أفريقيا، حيث اعتبرها كثيرون إهانةً صارخةً للقارة وسابقة خطيرة في التعامل الدولي. في إسواتيني – الدولة الصغيرة التي وصلها المرحَّلون الخمسة – عبّر نشطاء ومعارضون عن سخط شديد واصفين الخطوة بأنَّها تعامل مع بلادهم كأنَّها “مكبّ نفايات” للتخلّص من أشخاص غير مرغوب فيهم في أمريكا. وقد أكّد منتقدون محلّيون أنَّ قبول حبس سجناء أجانب لا صلة لهم بإسواتيني هو تصرّف “مخالف للقانون المحليّ”، ويمثّل انتهاكًا للسيادة، خاصةً مع معاناة البلاد أصلًا من اكتظاظ السجون وتردّي البنية التحتية فيها. وارتأى عديدون أنَّه من غير المقبول أن تُعامَل دولة أفريقيَّة كمجرّد محطة للتخلص من أشخاص تعتبرهم الولايات المتحدة غير مؤهَّلين للإقامة على أراضيها. هذا الغضب الشعبيّ ليس حكرًا على إسواتيني وحدها؛ فقد صدرت تصريحاتٌ غاضبةٌ في أرجاء أفريقيا ترفض منطق “ترحيل المشكلة” الغربية إلى القارة وتندّد بهذا السلوك الاستعلائيّ المهين.
الأدهى من ذلك أنّ الخطاب الرسميَّ الأمريكيَّ الذي صاحبَ هذه الترحيلات جاء مستفزًا للكرامة الإنسانية. فقد وصف مسؤولون في وزارة الأمن الداخليّ الأمريكيَّة المرحَّلين بعباراتٍ شنيعة، مثل تسميتهم “وحوشًا منحرفة” و”أفرادًا همجيين بشكل فريد” رفضت دولهم استقبالهم. وصرّحت تريشيا ماكلوفلين –مساعدة وزير الأمن الداخلي والمتحدثة باسم الوزارة– مثلًا بأن هؤلاء المُبْعَدِين “كانوا يرهبون المجتمعات الأمريكيَّة، ولكن بفضل (الرئيس) ترامب باتوا خارج الأراضي الأمريكية”، في إشارة واضحة إلى الارتياح بالتخلص منهم ورميهم بعيدًا عن الأنظار. مثل هذا الخطاب يعزّز الانطباع بأنَّ واشنطن تتعامل مع بعض البشر وكأنَّهم نفايات بشريَّة يتمُّ التخلص منها في أفريقيا، مما يمثّل امتدادًا لعقلية استعماريَّة قديمة تُنزِع فيها إنسانية شعوب الجنوب ويتم تصويرهم كعبءٍ أو خطرٍ يجب إبعاده عن العالم المتحضّر.
استغلال حاجة أفريقيا: إغراء بالمال وضغوط سياسية
غنيٌّ عن البيان هنا أنَّه يعتمد نجاح مشروع ترامب في تصدير المرحّلين على إغراء بعض الدول الفقيرة أو الضغط عليها للقبول بهذه الصفقات المشبوهة. حيث كشفت المصادر الأمريكيَّة نفسها أنَّ إدارة ترامب حاولت إبرام اتفاقياتٍ سرية مع العديد من الدول الأفريقيَّة لاستضافة المرحّلين من جنسيات أخرى على أراضيها. ووفقًا لتقرير نيويورك تايمز الذي نُقل في صحافة ليبيريا، تمَّ تحديد 51 دولة حول العالم مستهدفة لهذا الغرض، بينها دول أفريقية عديدة مثل ليبيريا وجنوب السودان وغانا ونيجيريا ومصر وجيبوتي وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وقد قبلت بالفعل سبع دول عروضًا أمريكيَّة في هذا الشأن، من ضمنها غواتيمالا وكوستاريكا والمكسيك، وفي أفريقيا رواندا جنوب السودان ومملكة إسواتيني وغيرها، مقابل حوافزٍ ماليةٍ ودبلوماسية. على سبيل المثال، دُفِعَت مبالغ مالية مباشرة لبعض الدول لقاء قبول أفراد مرحَّلين: تشير إحدى الحالات إلى دفع 100 ألف دولار لرواندا مقابل استقبال مرحّل واحد من العراق. هذه المعاملات المالية تكشف بوضوح طبيعة الصفقة: واشنطن تعرض المال أو المنافع مقابل أن تقوم دولة محتاجة بدور المستودع لمشكلة أمريكية داخلية. ليس هذا فقط، فإلى جانب الإغراء بالتمويل أو المساعدات، هناك أيضًا ضغط سياسيّ هائل تُمارسه الإدارة الأمريكيَّة على بعض الحكومات المترددة. فقد اشتكى مسؤولون في نيجيريا مثلًا من تعرّضهم لضغوطٍ شديدة للقبول بترحيل سجناء من جنسيات أجنبية إلى بلادهم، بينهم مواطنون من فنزويلا أُفرج عنهم من سجون أمريكية. وصرّح وزير الخارجية النيجيريّ يوسف توَّغار بأنَّ الولايات المتحدة لوّحت باتخاذ إجراءات عقابيَّة – منها رفع الرسوم الجمركية أو تشديد قيود التأشيرات – إذا لم تتعاون الدول الأفريقية في هذا المشروع. مثل هذا النهج يؤكد أنّ العقلية الاستعماريَّة لم تختفِ؛ فالقوى الكبرى لا تزال تمارس سياسة العصا والجزرة لفرض ما تريده على دول أضعف اقتصاديًّا، مستغلّة حاجتها للتجارة أو المساعدات.
وهكذا اضطرَّت بعض الدول الأفريقيَّة إلى الرضوخ على مضض إما طمعًا في وعود الدعم أو خوفًا من عواقب الرَّفض. في المقابل، رفضت دول أخرى كبرى نسبيًّا الرضوخ؛ فعلى سبيل المثال رفضت نيجيريا بشكلٍ قاطع فكرة استقبال مرحّلين أجانب رغم ما قيل عن هذه التهديدات، مما يدل على وجود مقاومة أفريقيّة لهذه الإملاءات المهينة.
انتهاكٌ للقيم الإنسانية والمعايير الدولية
ما يزعجني أنَّه رغم ما يثيره مشروع ترحيل المهاجرين المجرمين إلى أفريقيا من أسئلة أخلاقيَّة وقانونيَّة خطيرة، إذ يتعارض بشكل جوهريّ مع قيم حقوق الإنسان التي يفترض أنَّ الدول الغربية الليبرالية تتبناها، إلَّا أنَّ الانتقادات الغربية له شبه منعدم. كيف يمكن لدولة –أو قوى غربية- تدّعي الريادة في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان أن تتفاوض لنقل بشر قسرًا إلى دول يرون أنَّهم أنسب لاستقبال ما تترفع عنها أمريكا؟ لماذا يجب أن تكون أفريقيا المناسبة لاستقبال ما تسميهم إدراة ترامب نفسه بـ “وحوشٍ منحرفة”؟. طبعًا وللإنصاف حريّ بالذكر أنّ منظمات حقوقيَّة دوليَّة حذّرت من أنَّ ترحيل أفراد إلى دول تعاني من نزاعاتٍ أو سجل حقوقيّ سيئ قد يعرّض هؤلاء المرحّلين لخطر التعذيب أو الموت، خاصة وأنَّ كثيرًا منهم لاجئون فرّوا أصلًا من الاضطهاد في بلدانهم. وفي الحالة الأمريكيَّة الراهنة، لا يُمنح المرحَّلون فرصة حقيقية للاعتراض؛ إذ كشفت وثائق قضائيَّة أنَّ السلطات أبلغت بعضهم بنيّة ترحيلهم إلى بلدٍ ثالث قبل ساعات فقط من تنفيذ الإبعاد، مما يسلبهم فعليًا حقهم القانونيّ في الطعن واللجوء إلى القضاء. وقد انتقدت القاضية الأمريكيَّة سونيا سوتومايور هذه الإجراءات بشدة، قائلة إنَّ الحكومة تتصرف وكأنَّها “غير مقيّدة بالقانون، حرة في ترحيل أي شخص إلى أي مكان دون إشعار أو سماع”. هذا فقط فيما يتعلق بالمرحَّلين العاديين، غير المجرمين المرحَّلين الذين لا نكاد نسمع لماذا اختيرت لهم أفريقيا.
على صعيدٍ آخر، تنسف هذه السياسات مبدأ المسؤولية المشتركة في التعامل مع التحديات العالميَّة. فمن المفترض أنَّه في عالم مترابط، تتعاون الدول لحل مشاكل كالهجرة غير النظاميَّة عبر دعم التنمية وحل النزاعات، وليس عبر رمي أعبائها على كاهل الدول الأضعف. إنَّ الثقافة السياسيَّة الكامنة وراء هذا النهج هي ثقافة ليبراليَّة رأسماليَّة متوحّشة –على حد وصف نقّاد أفارقة– تؤمن بتصدير المشكلات عن مركز النظام العالميّ (الغرب الغنيّ) إلى أطرافه (الجنوب الفقير)، تمامًا كما تصدّر النّفايات الصناعيَّة والسامة إلى بلداننا. إنَّها ذهنيَّة استعلائيَّة ترى أنَّ حياة الإنسان في أفريقيا أقلّ قيمةً ويمكن التضحية بها لإراحة المجتمعات الغربيّة. هذا المنظور يعيد إلى الأذهان تحليلات المفكر الفرنكفونيّ فرانز فانون للاستعمار بوصفه نظامًا يُفرغ الإنسان المستعمَر من قيمته ويحوّله إلى شيء. اليوم، ورغم خطاب “التعاون” و”الشراكة” الذي تتبناه الدول الغربية ظاهريًّا، نرى ممارساتٍ على الأرض لا تختلف كثيرًا عن منطق المستعمِر القديم في استخدام أفريقيا ساحةً خلفية لحل مشاكله الخاصة.
خاتمة: في التتمة، يُمثل مشروع ترامب بترحيل المجرمين المرحّلين إلى دول أفريقيَّة حلقة جديدة في سلسلة السياسات غير الأخلاقيَّة التي تُمارس بحقِّ القارة. إنَّه مشروع مُهين يحاول معالجة مشكلات الغرب الداخلية بإلقائها على أفريقيا، مستغلًا نقاط الضعف الاقتصاديَّة والسياسيَّة لدى بعض دولها. لكن الرد الأفريقيّ لم يكن صمتًا ولا قبولًا شاملًا؛ بل شهدنا رفضًا صريحًا من شعوب ومنظمات وحتى بعض الحكومات الأفريقية لهذا التعامل المهين. هذا الرفض يمنح بارقة أمل بأنَّ أفريقيا لن تقبل بدور مكبّ النفايات البشرية لأيّ قوة كانت. إنَّ السياسات الليبراليَّة الغربية حين تتوحش وتتنكر لقيمها المعلنة، فإنَّ نقّادًا من أمثال البروفيسور الكاميروني، جان بول بوغالا وغيره محقّون في تسميتها ونعتها بأسمائها الحقيقية. ومن واجبنا كأفارقة وكجزء من الضمير الإنساني العالميّ أن نواصل كشف هذه الازدواجيَّة والنضال من أجل نظام أكثر عدالةً وإنسانية. أفريقيا ليست ولن تكون مكبًا لنفايات مشكلات الغرب؛ هذه رسالة واضحة يجب أن يفهمها صناع القرار في واشنطن ولندن وباريس وغيرها.