أدب

1984: لا شيء يفاجئ السوري حين يقرأ عن الطغيان

يوليو 27, 2025

1984: لا شيء يفاجئ السوري حين يقرأ عن الطغيان

-رهام حمشو

 

 

عن روايةٍ سبقت واقعنا.. وواقعٍ تجاوز الرواية.

 

لسنوات طويلة كانت رواية 1984 الشاهد الأول الذي يذكر عند الحديث عن الدكتاتورية والقمع والنظام الشمولي، إلا أنني عندما قرأتها لم أندهش من سلطة “الأخ الأكبر”، ولم أستنكر شاشات الرصد المزروعة في كل مكان، ولم أصدم من “جريمة الفكر” وكيف أن فكرة واحدة تدور داخل عقلك يمكن أن توصلك للموت، كل سطر كان مألوفاً. وكأن الكاتب استوحى روايته من شوارع سوريا، ومن زنازين تدمر، ومن أخبار التاسعة على التلفزيون السوري.

 

 

رغم تصنيف الرواية بأنها خيال سياسي مظلم، لا يقرؤها السوري كتخيل، بل كمذكرة استخباراتية عن واقعٍ عاشه، فأول ما يتبادر إلى الذهن: “لا بد أن حافظ الأسد قرأ هذه الرواية” ولم يكتف بقراءته بل طبّقها وزاد عليها ظلماً وقمعاً.

من وُلد في ظل الأسدين، يعرف تماماً أن 1984 ليست رواية مستقبلية. إنها نشرة أخبار قديمة دون موسيقى تصويرية.

 

 

 

عن الرواية

 

تدور أحداث الرواية في عالمٍ مستقبلي قاتم تحكمه سلطة مطلقة يُطلق عليها “الحزب”، بقيادة زعيم غامض يُعرف باسم “الأخ الأكبر”، وهو شخصية لم يرها أحد، لكن صوره تملأ الجدران، مصحوبة بشعار مخيف: “الأخ الأكبر يراقبك”.

 

يسيطر الحزب على كل جوانب الحياة: من العمل والتعليم والطعام وحتى الحب والزواج واللغة. كل بيت و شارع، وأي مكان عام مزوّد بشاشات مراقبة تنقل كل ما يفعله الأفراد إلى عيون السلطة، فلا خصوصية، ولا حرية، ولا حتى مجال للتفكير الحر. مجرد التفكير خارج إطار ما يحدده الحزب يُعد “جريمة فكر”، وقد تكون عقوبتها الموت.

 

بطل الرواية، “وينستون سميث”، يعمل في وزارة الحقيقة، حيث تُعاد كتابة التاريخ حسب ما يريده الحزب. يبدأ وينستون في التمرد سراً، بكتابة مذكرات تحمل أفكاره الحقيقية، ويقع في حب فتاة تُدعى جوليا، وهو ما يعتبره الحزب أيضاً فعلاً غير قانوني. تحاول علاقتهما أن تكون ملاذاً للحرية، لكنها سرعان ما تتحطم تحت وطأة القمع والاعتقال والتعذيب وغسيل الدماغ.

 

 

شاشات الرصد الخاصة بنا

 

ما وصفه أورويل على أنه خيال مرعب، لم يكن غير واقع مألوف عاشه السوريون لعقود طويلة.

في سوريا لم تكن شاشة الرصد مرئية إلا أنها في كل مكان قد تكون سائق التكسي أو بائع الكعك أو زميلك في المكتب أو جارك وحتى أخوك.

تقول المعتقلة سابقاً في سجون النظام مريم خليف “اعترف عني زوجي أني كنت أساعد جرحى المظاهرات”.

عبارة “الحيطان لها آذان ” لم تكن مجازاً، بل قاعدة للبقاء، الكل يراقب والكل مراقب.

 

 

 كتب أورويل عن “جريمة الفكر”، وكتب السوريون عنها بدمهم.

 

يروي المعتقل السابق عمر حذيفة: “كنت في الـ 17 من عمري حين كتبت آية قرآنية على اللوح، فاعتُقلت وقضيت 12 سنة في سجن تدمر تجرعت بها كل أصناف العذاب”. لم يكن الوحيد بل كان نموذجاً لآلاف المعتقلين الذين ذهبت أعمارهم خلف القضبان وتحت التعذيب الشديد لمجرد أنهم فكروا، أو حلموا للحظة بالتغيير والحرية .

هذا هو الواقع الذي جعل رواية 1984 تبدو لسوريين كُثر مثل تقرير قديم يقرؤونه.

 

 

 

الداخل مفقود والخارج مولود

 

“الداخل مفقود والخارج مولود ” عبارة مكتوبة على حائط فرع فلسطين في سوريا.

 

ابتلعت سجون النظام أولاد السوريين، وسجن تدمر الشهير مثال حي فكم دخله أشخاص ولم يخرجوا إلا جثثاً مقتولة تحت التعذيب، فلا أحد ينسى المجزرة التي ارتكبها النظام بحق المعتقلين عام 1980 قُتل فيها أكثر من 1200 معتقل في لحظة واحدة. وكم سمعنا روايات لا تصدق عن ما عاناه المعتقلون داخل ذلك السجن.

 

 

أما صيدنايا، فالمسلخ البشري ليس مجرد تعبير مجازي، بل توصيف حقيقي لمكان وُجد للتعذيب والموت. يقول عمر الشغري وهو معتقل سابق “كنت في فرع فلسطين وكان العذاب شديداً لا يُحتمل، ثم تم تحويلي لسجن صيدنايا، أول ما دخلت عليه استقبلونا بحفلة الاستقبال التي استمرت 6 ساعات متواصلة من الضرب” ويضيف “أصوات المعتقلين في صيدنايا تختلف”.

 

 

وما لا يقل رعباً هو فرع 215، أحد الأفرع الأمنية التابعة للمخابرات العسكرية في دمشق. الصور التي سرّبها العسكري المنشق “قيصر” كشفت آلاف الجثث التي عُذبت حتى الموت، واحتفظ النظام بصورهم وأرقامهم، كما لو كان يُسجل “انتصاراته” على أجساد مواطنيه.

نحتاج عشرات السنين وآلاف الروايات لكي نروي ولو قليلاً ما كان يجري في تلك الزنازين.

 

 

لذلك، من الطبيعي أن تبدو 1984 رواية “خفيفة” إذا ما قورنت بشهادات معتقلي تلك المعتقلات، فالتعذيب في الرواية كان لتغيير الأفكار والمعتقدات أما في سوريا فكان التعذيب لمجرد التعذيب والذل والإهانة فقط.

 

 

 

محو الذاكرة واحتكار الحقيقة

 

في رواية 1984، كان “حزب” يُعيد كتابة التاريخ باستمرار، ويمحو الوثائق والصور، ويُلغي الأشخاص من الوجود بمجرد أن يصبحوا غير مرغوب فيهم. المشهد ذاته حدث في سوريا صحف تُنشر يومياً بلا مضمون، إعلام لا ينقل الحقيقة بل يصنعها، وكتب مدرسية تُعيد تشكيل الواقع لتخدم النظام، حتى أن اسم الأسد بات حاضراً في أسئلة الرياضيات والجغرافيا، في تمجيد لا عقل فيه.

 

أُفرغت المدن من معارضيها، واعتُقل النشطاء، وتم نفي المثقفين، حتى باتت سوريا تشبه “مسرحاً من الخوف”، لا يتحرك فيه الناس إلا بعيون الأمن وبصمات المخابرات. من يتحدث يُتهم بالخيانة، ومن يسكت يُثنى على حكمته، ومن يُقتل يُقال إنه “استشهد دفاعاً عن الوطن”.

 

 

 

ما لم يتخيله أورويل.. وحققناه نحن

 

جورج أورويل كتب رواية 1984 ليحذّر من مستقبل شمولي خانق، أما نحن فقد عشنا هذا المستقبل ثم أسقطناه. في الرواية، انتهى البطل وينستون بعد التعذيب إلى أن أحب “الأخ الأكبر”.

لكننا، نحن السوريين، وبعد سنوات طويلة من القمع والمجازر والنفي والموت البطيء  لم نحب الطاغية، ولم ننسَ، ولم نستسلم.

في 8 كان الثاني/ ديسمبر 2024، سقط النظام، سقط “الأخ الأكبر”، وفتحت أبواب السجون، وسقطت الصور والتماثيل، وانتهى كابوسٌ استمر لعقود.

 

صحيح أننا ما نزال نُداوي جراحنا، ونحاول إعادة بناء أرواحنا ووطننا، لكن الحقيقة التي لم يتخيلها أورويل هي أن هذا الوحش يمكن أن يسقط، وأن ذاكرة الشعوب لا تُمحى مهما طال القمع.

 

روايتنا لم تنتهِ بعد، لكنها تجاوزت الصفحة الأهم: صفحة الانكسار والخوف، وما تبقى هو كتابة التاريخ بأيدينا، لا بأقلام الحزب.

شارك