آراء
في هذا الزمان الذي يشهد تحوّلات كبرى، لا بدّ أن تُعاد قراءة العلاقات بين الدول العربيَّة الكبرى الاقليميّة لا بمنظار الأمس وحده، بل ببوصلة المصير المشترك، واستبصار الضرورات والتّحدّيات التي تمليها تعقيدات الحاضر السّياسيّ ومآلات المستقبل.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم التقارب السّعوديّ السّوريّ الأخير أنَّه ليس مجرد تحوّل دبلوماسيّ عابر، بل كخطوةٍ استراتيجيّة تُعيد فتح النوافذ بين بلدين عربيين محوريين، جمعتهما التاريخ والدين والتراث والعروبة، وفرّقتهما السّياسات في السنوات الاخيرة في ظل النظام السابق، ثم عاد الطرفين بوعي اللحظة إلى طاولة المصالح المشتركة بعد وصول النظام الجديد في دمشق، دون وسطاء، ودون حواجز من الشكوك القديمة.
ففي عالم عربيّ وإقليميّ يعجّ بالاضطرابات والتدخلات الخارجيّة، لا يمكن للدول أن تبقى رهينة الجمود أو أسرى الخطابات المؤامراتيّة، إذ إنّ السياسة –في جوهرها– فن الموازنة العقلانيّة، وإدارة التناقضات، وصناعة المساحات الرمادية التي تحفظ الاستقرار، وتحمي السيادة، وتفتح آفاقًا جديدة للشراكة لا للخصومة، وهذا ما تجلّى بوضوح في المنتدى الاستثماري السعوديّ السوريّ، الذي انعقد مؤخرًا في دمشق بحضور وفد سعودي رفيع، وأسفر عن توقيع أكثر من أربعين اتّفاقيَّة، ومذكرة تفاهم في مجالات البنية التحتيّة، والطاقة والعقار والزراعة كما ذكرت عديد من المصادر، في مشهدٍ يظهر بأنَّ الاقتصاد بات الرافعة الأهمّ لإعادة التموضع العربيّ، لا على قاعدة التبعية، بل على منطق التشاركية النفعية.
ولعلّ تصريح أحد المسؤولين السعوديين بأنَّ “المملكة لن ترضخ للشائعات حول النظام السوريّ الجديد”، ولم يكن في معرض الردّ على حملات التّشويش حول النظام الحاليّ في سوريا، بل تعبيرًا عن استقلال القرار السعوديّ في نظرته الخاصة لدمشق ومن يديرها، وأنّه لا يرضخ لأي إملاءات حول ذلك، ورغبته جامحة في إدارة كينونة العلاقات العربيّة من منطلق سياديّ ناضج، يفرّق بين الماضي بما حدث والذي يجب فهمه، والحاضر الذي يجب إدارته الآن، والمستقبل الذي يجب بناؤه بوعي وتخطيط، ولا ننسى أنَّ كلّ ذلك حصل في ظل توترات تُغذّيها إسرائيل في الجنوب السوريّ في منطقة السويداء، والمدعومة أيضًا حسب رأي خبراء من بعض الدول العربيّة، فموقف السعوديّة في هذا الشأن في تبيان لاصطفاف سعودي مع ادارة دمشق.
والتقارب هنا لا يعني التطابق التام، بل انتقالًا واعيًا إلى فلسفة التّفاهم المشترك الواعي بين الرياض ودمشق، حيث يمكن للدول أن تتواصل دون أن تُلغي خصوصياتها، أو تنكر اختلافاتها، وأن تتعاون دون أن تتخلى عن ثوابتها.
فما أحوجنا في هذه اللحظة العربيّة الحرجة إلى خطابٍ لا يفرز المواقف بنمطية المزاجية أو الثأر للأفكار، بل خطاب يبحث عن النقاط المشتركة، ويؤمن أن صون الدولة، وتعزيز التنمية، وتفعيل الدور العربيّ، ليست أمنيات، بل خيارات وجوديّة حتميّة.
فالتقارب السعوديّ السوريّ –بهذا المعنى– ليس مجرد حدث دبلوماسيّ، بل محطة فاصلة في رحلة إعادة بناء العقل العربيّ السياسيّ على أسس من السّيادة، وأن نؤمن يقينًا بأنّ لا خيار لنا إلّا بعضنا.





