آراء
كَثُرَ الحديث مؤخّرًا عن مسارات السلام لإنهاء الحرب في السودان، حيث تعقد الولايات المتحدة اجتماعًا مع الرباعية في نهاية يوليو الحاليّ، يغيب عنه الحكومة السودانيّة وميليشيا الدعم السريع. والمفارقة أنّ الإمارات المتورطة في تأجيج نيران الحرب بدعمها للميليشيا، تحضر الاجتماع، بينما تدعوها واشنطن على أنّها طرف محايد.
باختصار، هناك عشرات الوساطات الدوليّة والمحليّة التي سعت ولا تزال تسعى لفتح قنوات اتصال بين الحكومة السودانيَّة وميليشيا الدعم السريع من جهة، وبين الحكومة والإمارات من جهةٍ أخرى. لكن لا ضوء يلوح في الأفق بعد، إذ تواصل أبوظبي إنفاق مليارات الدولارات لتسليح الميليشيا وتشوينها، بينما تستمر الأخيرة في ارتكاب جرائمها الوحشية بحق الشعب السودانيّ، فيما يغض العالم الطّرف عن أدوار أبوظبي في تأجيج الحرب.
في هذا المقال، نستعرض آراء الباحثين والخبراء في ملفات السلام والدبلوماسيّة والاستخبارات، ونطرح خبراتهم الممتدة في هذا الملف المعقد المليء بالألغام.
الحوار بين الأطراف المتحاربة!
يقول خبراء الدبلوماسية والسلام إن كلما اشتعلت أوار الحروب، وخرج الوضع السياسي عن السيطرة، وطفت الصراعات على السّطح، زادت أهمِّيَّة استمرار الحوار بين الأطراف المتحاربة رغم علنية دق طبول الحرب. ويتم ذلك عبر قنوات خلفيّة تعتمد على التكتم التّام والتحفظ الدبلوماسيّ الكامل، بحيث تكون العملية غير قابلة للتسريب مطلقًا، وإلّا أصبحت مهددة. فكلما كان عملها سريًا، زادت فرص نجاحها.
أحد كبار الباحثين في الأمن القومي، وقائد سابق في أجهزة الاستخبارات والأمن السودانيّة، فضّل حجب اسمه، أخبرني أنّ عمليات السلام الناجحة تبدأ عادةً بقناة خلفيّة سريّة، خاصة في حالات انعدام الثّقة العميق بين الأطراف، أو عندما يعارض المؤيدون لأيّ من الطرفين بشدة إجراء محادثات علنيّة أثناء استمرار الصراع.
ويرى ذات الباحث أنّ القنوات الخلفيّة السريّة توفر وسيلة لاستكشاف التسويات المحتملة بعيدًا عن ضغط الإعلام، وتمهد الطريق لعمليات السلام العلنية. وعلى الرغم من أن الظروف السياسية الحالية لا تبدو مواتية للمفاوضات العلنية، فإن الاستعداد لها يصب في مصلحة جميع الأطراف. فالتحضير للمحادثات لا يحدد مسبقًا جوهرها أو نتائجها، ولا يرتبط بتسلسل وقف إطلاق النار. ومع ذلك، فإن هذا العمل الأساسيّ الدقيق خلف الكواليس يتيح بدء المفاوضات بسرعة عندما يصبح الطرفان مستعدين، كما يزيد من احتمال التوصل إلى اتفاقيات قابلة للتنفيذ بدلًا من تكرار صيغ فاشلة من الماضي.
أنشأت الحكومة البريطانيّة قناة خلفيّة سريّة مع الجيش الجمهوريّ الأيرلنديّ في عام 1972، وحافظت عليها حتى عام 1993، وكانت حاسمة في تمكين المفاوضات العامة بين حكومة جون ميجور وأيرلندا الشماليّة، مما أدى إلى وقف إطلاق النار الأول للجيش الجمهوريّ. وبما أن العنف كان مستمرًا، لم يكن ميجور قادرًا على تفويض محادثات علنيّة، ولولا القناة الخلفيّة لما تم الوصول إلى مفاوضات عامة.
في كولومبيا، أقام الرئيس سانتوس قناة خلفيّة مماثلة في عام 2011 مع زعيم القوات المسلحة الثوريّة الكولومبيّة، حيث استخدم رجل أعمال موثوقًا به من الطرفين لنقل الرسائل بينهما في الغابة. لم يعلم أحد بهذه القناة، وظلت سرية تمامًا رغم الاهتمام العام بالصراع في البلدين؛ لأنّ عدد الأشخاص المطّلعين عليها كان محدودًا للغاية.
ما هي القناة الخلفيّة؟
تختلف القناة الخلفيّة السريّة عن قنوات الاتصال العادية. ففي السودان، قد تكون هناك محادثات متعددة بين الطرفين، لكن القناة السريّة المفيدة يجب أن تتجاوز الاتصالات الاجتماعية عبر أصدقاء مشتركين، وأن تحظى بموافقة القادة، وأن تكون قناة واحدة متفق عليها بين الطرفين.
عادةً ما يكون الأشخاص المشاركون في القنوات الخلفية أفرادًا موثوقين من الطرفين، ولديهم إمكانية الوصول المباشر إلى القادة. وكلما كانت دائرة المطّلعين على القناة أصغر، كان ذلك أفضل. فزيادة عدد المشاركين تجعل القناة أكثر عرضة للخطر. وفي بعض الحالات، تُفتح هذه القنوات مباشرة بين الطرفين، لكنها غالبًا ما تنجح أكثر إذا تدخل طرف ثالث محايد موثوق به كوسيطٍ يتنقل بين الطرفين، ويجمعهما في الوقت المناسب.
فتح قناة خلفيّة: المبادئ والبنية والخطوات
الخطوات الأولى لتطوير قناة خلفيّة حاسمة وحساسة للغاية، وقد يشعر القادة بالقلق من المخاطر السياسيّة إذا تم اكتشاف القناة، وقد لا يرون حاجة لها أصلًا. لذا، فإن بناء الثّقة والوضوح والفهم الكامل لمتطلبات إنشاء القناة أمر حيوي.
بناء الثّقة يستغرق وقتًا طويلًا، لذا يجب أن تبدأ القنوات بهدوء، مع اختبار الاستعداد من خلال تبادلات صغيرة للمعلومات.
من المهم عند فتح قناة خلفيّة ضمان إدراك الطرفين لمبادئ مثل إمكانية إنكار المسؤولية والسريّة، حيث تُعدّ إمكانية إنكار المسؤولية ضروريّة. ففي إسبانيا، فتح ألفريدو روبالكابا، وزير الداخلية آنذاك، قناة خلفيّة مع منظمة إيتا في عام 2004 بوساطة خيسوس إيغيغورين، رئيس الحزب الاشتراكي في إقليم الباسك. ولم يكن إيغيغورين يشغل منصبًا حكوميًّا حينها، مما مكّن رئيس الوزراء ثباتيرو وروبالكابا من إنكار أي محادثات حكومية مع إيتا.
أمن القنوات الخلفيّة ولوجستياتها أمر حيويّ، ويجب أن يشعر المشاركون بأنّ سريّة القناة محمية. ففي حالة كولومبيا، كان من الضروريّ أن يطمئن أعضاء القوات المسلحة الثوريّة إلى أن محاوريهم الحكوميين يضمنون أمنهم وأنّ اتصالاتهم آمنة.
يجب إنشاء القناة الخلفيّة لتحقيق هدف محدد ومتفق عليه مسبقًا، وهي ليست بديلًا عن المفاوضات. فقد تُستخدم في البداية لتبادل المعلومات أو لتدابير بناء الثقة، مثل إطلاق سراح السّجناء السّياسيين، وهكذا تبني الأطراف الثقة.
المرحلة التالية هي تهيئة الظروف الملائمة للمفاوضات، وفي كثيرٍ من السياقات، يتضمن ذلك وضع اتفاقية إطارية تحدد المبادئ والقواعد والبنية ونطاق المحادثات المستقبليّة.
اتفاقية الإطار
تمكّن الأطراف من استغلال نافذة الفرصة بسرعة، وتجنب التأخيرات التي قد تؤدي إلى انهيار المحادثات، أو تدخل المفسدين، أو تغير ديناميكيات ساحة المعركة. وتشمل المهام التالية:
*تحديد نطاق المحادثات – ما هو مطروح وما هو مستبعد – لتجنب المفاجآت.
*وضع الأجندة والبنية وقواعد الإجراءات لتوضيح آلية التوصل إلى الاتفاقيات.
*تصميم هيكل قوي للحلفاء الدوليين لدعم العملية والتعامل مع الآثار الإقليميّة والعالميّة على الأمن.
*توفير الوقت لتطوير سرد للمحادثات وخطة اتصال استراتيجية تستهدف الدوائر الداخليّة المعارضة للتسوية.
*إعداد العملية لتحمل النكسات وتقديم اتفاقيات مستدامة.
الاتفاقات الجوهريّة
التوصل إلى اتفاق سريّ بشأن عملية كهذه أمر صعب، لكن هناك حجة قوية للسعي إلى توافقات جوهريّة بدلًا من التسرع في تحقيق نتائج نهائيّة. فأثناء الحرب، غالبًا ما تواجه الحكومات ضغوطًا لرفض المفاوضات تمامًا أو للسعي إلى مكاسب سريعة مثل وقف إطلاق النار أو السيطرة على الأراضي. وتأمل الحكومات أن تنشأ عملية تفاوض مرنة تلقائيًّا عند الحاجة، لكن ذلك نادرًا ما يحدث، مما يؤدي غالبًا إلى انهيار العملية.
يمكن أن تكون العملية بطيئة، ويجب أن تتقدم بوتيرة تتناسب مع قدرة القناة. كما يتعين على الطرفين التخطيط لإعداد دوائرهما الداخليّة، والتأكد من إطلاق اتفاقية الإطار علنًا فقط عندما يكونان مستعدين.
كيف يبدو النجاح؟
القناة الخلفيّة الناجحة تتحمل عبء العملية، وعادةً ما تسهم في بناء أو تعزيز عملية تمكن من بدء المفاوضات العامة. وغالبًا، وليس دائمًا، توفر القناة أساسًا لتلك المفاوضات.
يمكن استخدام القناة الخلفيّة لتجاوز العقبات بعد بدء المحادثات الرسميّة، مع ضرورة ضمان التنسيق المناسب بين القناة السريّة والمفاوضات العامة. وقد أثبتت القنوات الخلفية فعاليتها في تحقيق السلام والاستقرار، كما حدث في جنوب أفريقيا.
يجب أن يقتصر عدد المطّلعين على القناة من الطرفين على القليل منذ البداية، مع ضمان عدم تباعد المناقشات السريّة والعلنية.
الهدف من القناة الخلفيّة السريّة هو إيجاد حلول للمحادثات العامة لا يمكن استكشافها علنًا. وتساعد في تحقيق مبدأ “لا شيء متفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء” من خلال السماح باستكشاف المقايضات بين القضايا المختلفة.
تُعدّ القناة ناجحة إذا حافظت على سريتها طوال الوقت واستمرت بالتوازي مع المحادثات العامة، مما يحمي العملية من الفشل. ففي جنوب أفريقيا، خلال مفاوضات إنهاء الفصل العنصريّ، ألغى نيلسون مانديلا المحادثات علنًا في لحظةٍ حاسمة، مما كاد يعرقل العملية. لكن سيريل رامافوزا اتصل فورًا بالمفاوض الرئيسيّ للحزب الوطنيّ، رولف ماير، وأكّد له ضرورة استمرار الحوار سرًا.
القنوات الخلفيّة ليست سوى أداة ضمن السياق الأوسع لإنهاء الصراعات. وغالبًا ما يتعين على المشاركين “القتال والتّحدث” في آنٍ واحد، وسط موقف متطور ومتغير باستمرار، مع التكيّف مع الضغوط والتحديات. وتساعد القنوات الخلفيّة القادة على استكشاف حلول وسطيّة، وتحقيق ما يبدو مستحيلًا في بيئة أقل ضغطًا





