ثقافة
يحمل المغترب معه بلاده أينما حلَّ، يحكي عنها ويذكرها، ويشعر كأنها أمانة في عنقه. يحاول التعبير عنها في هويته وعاداته وفنه وموسيقاه حتى، يقف مالك جندلي على خشبةِ مسرح البافيليون في 20 تموز/ يوليو الحالي، بين تراث البلادِ التي لم يعش فيها، وبين السمفونيات التي ألَّفها وعزفها عن بلده، عن سوريا.
يُعَدُّ الموسيقار مالك جندلي من الأشخاص الذين يحاولون حمل بلادهم معهم دائماً في أمسياتهم وحفلاتهم وعملهم في الموسيقى، إذ يعدُّ أولَ مؤلفٍ سوريٍّ وموسيقارٍ عربيٍّ وزَّع أقدم تدوينٍ موسيقيٍّ اكتُشِف في العالم: لوحاتٌ مسماريةٌ في مدينةِ أوغاريت السورية تعودُ إلى القرن الرابع قبل الميلاد. كما ألفَ الكثيرَ من المقطوعات التي حاولَ من خلالها تحويلَ الألم السوري إلى موسيقى خالدة، ليكونَ أكثرَ من عازفٍ بل حاملاً لذاكرة وطنه، يعزف الحنين والأمل.
بما أنَّ سوريا من أقدمِ البقاع الجغرافية المأهولة وأرض الأبجدية الأولى، لا بدَّ أن يكونَ للموسيقى نصيبٌ من هذا التاريخ العظيم، فقد تأثرت بتعاقب الحضارات والتفاعلات الثقافية التي شهدتها، بدايةً من لوحاتِ مدينةِ أوغاريت المسمارية إلى جميع الحضارات التي مرت وسكنت هذه الأرض، وصولاً إلى العصور الإسلامية. والتراث يرتبط ارتباطاً مباشراً بالطبيعة الجغرافية والتنوع الثقافي في كل مكان.
نحاول أن نذكر نوعين من التراث الموسيقي السوري: التراث الموسيقي الآلي، والتراث الغنائي الشعبي.
تطورت الموسيقى الشرقية في بلادِ الشام وفي سوريا بتأثرٍ كبيرٍ بالعديد من الحضارات وخصوصاً العصور الإسلامية. لاقت اهتماماً في العصر الأموي إذ صدر كتابُ النغم ليونس الكاتب ليكون أول كتاب عربي عن الأصوات والغناء، وازدهاراً كبيراً في العصر العباسي، فتطورت المقامات وكثرت الآلات الموسيقية وشاع استخدامها، وازدهرت حركة التدوين والتوثيق الموسيقي على يدِ الكندي والفارابي.
أخذ العرب القوالب الموسيقية مثل البشرف والسماعي التي تعتبر فارسية عثمانية المنشأ، عدّلوها وضبطوها بإدخال المقامات والأنغام العربية. ونذكر من هذه القوالب القوالب الغنائية المؤلفة، ويتفرع منها الموشح والقد والدور والموال، وهي من أشهر القوالب الموسيقية الغنائية في سوريا.
بدأ الموشح في الأندلس عند العرب وانتقل إلى بلاد الشام عن طريق الاختلاط الاجتماعي والسياسي والتجاري. والموشح هو قصيدة أو نص مكتوب بطريقة شعرية، والإيقاع فيه هو الدور الأساسي فيتغير لتصبح الجُمل طويلة، وتكرر كلمة “أمان” كثيراً في الموشحات السورية، وهي كلمة ذات أصل تركي وتعني الرحمة سواء كان الموشح دينياً أو شاعرياً غزلياً. وأشهر من كتب ولحَّن الموشحات الحلبية عمر البطش.
لا بدَّ أن نقف عند مدينةِ حلب، المدينة التي تُكنَّى بالقدود؛ إذ يُقال القدود الحلبية. والقدود جمع «قدّ» ومعناه القدر أو المقدار، ويعني نظم الكلمات على موسيقى موجودة مسبقاً وعلى قدرها. ويمكن أن تكون القدود دينية أو شعرية غزلية أيضاً. وأشهر من غنى القدود في سوريا الفنان صباح فخري، إذ كتب ولحَّن وغنى بصوته القوي الكثير من القدود والموشحات، مدهِشاً الجمهور بقدرته على التنقل بين طبقات الصوت. وكُرّم في فنزويلا عن الرقم القياسي لأطول مدة غناء متواصلة، والتي كانت 10 ساعات.
ويعدُّ أبو خليل القباني من أبرز ملحني الموشحات والقدود، وأهم مَن كتب الموشحات ولحّنها أيضاً الشيخُ عمر البطش. يعدُّ الفنان صباح فخري والفنان أبو خليل القباني والشيخ عمر البطش من أهم وأبرز الشخصيات التي حافظت على التراث الموسيقي السوري وطوَّرت عليه، وتركوا لنا إرثاً عظيماً يُدرس ونعود إليه كلما احتجنا إلى فنٍ وطربٍ حقيقي لا يشبه الموسيقى المبتذلة اليوم.
أما الدور أصله مصري، وهو يعتمد على مؤدٍّ للأغنية تصاحبه مجموعةٌ من الكورس تردد بعض الجمل الأساسية التي يغنيها المؤدّي وتكررها. وتكون غالباً كلمات الأغنية مصرية وتُغنى باللهجة الحلبية.
إلى الموال المشهور في سوريا، على اختلاف ثقافة السوريين وتنوعهم، فإنه اشتهر كثيراً بسبب طريقة غنائه وطريقة ترتيب المقامات. وله عدة أسماء؛ منها الموال السبعاوي أو البغدادي، والأسهل والأكثر شهرةً الموال الرباعي. ويكون الموال سياسياً أو غزلياً أو حماسياً، ويتكوَّن الموال الرباعي من 4 أشطر، تتميز الثلاثة الأولى بأنها تنتهي بنفس القافية، ولا تعطي هذه الكلمات المعنى ذاته في كل الأشطر، إذ لها معانٍ مختلفة، ويأتي هذا الجناس من تجميع كلمتين مع بعضهما أو إعادة نطق كلمة بشكل مختلف، والشطرة الرابعة تكون مختلفة عن الثلاث التي قبلها.
قبل أن ننتقل من التراث الحلبي إلى الأنماط الغنائية المختلفة لا بد أن نذكر بما عُرف في حلب من أن الكثير من المغنيات اللواتي كنّ يغنين في المناسبات والاحتفالات وكانت تسمى (الخوجة) وهي سيدة ذات صوت عذب تتقن العزف على العود وتغني في مناسبات السيدات الخاصة.
لنستطع التحدث عن التراث الشعبي، لا بدَّ أن نسلط الضوء على الطبيعة الجغرافية والسكنية لسوريا. ولتبسيط الأمر، نقسم الثقافة الموسيقية التراثية السورية إلى:
الجزيرة السورية، حيث الكثير من الحضارات والأنماط الغنائية، وقوع هذه المنطقة على طريق الحرير سابقاً والرحلات عن طريق نهر الفرات ، جعلها محطةً سفريةً للتبادل الثقافي والتجاري بين تركيا والعراق وسوريا. أشهر أغاني الجزيرة “المولايه” و”المايا” و”البوردانة”، وهناك روايات عن أهل المنطقة تقول إن الزي الفراتي للمرأة تكون أكمامه واسعة، وكلمة “الردان” تعني كمَّ الفستان. ولأن ثقافة المنطقة مختلطة، كانت المرأة تقدم القهوة للضيوف، لكن لا يمكن للرجال مغازلتها بالطبع، فغنى أحد الضيوف لحبيبته “يا بوردين يابو ردانه وش قلنا لك يا دادا زعلانة” مع اختلاف لهجة المنطقة طبعاً .
تتشابه الأرياف في الأغاني التراثية بسبب تشابه نمط العيش الزراعة ومواسم الحصاد، لذا نلاحظ تشابهاً بين ريف حلب والجزيرة السورية وريف حماة، وهذا يختلف عن المدن الكبرى كدمشق وحلب وحمص؛ فتكون أغاني تلك المدن عن المِهن أو الغزل أو الفاكهة أو أسماء المدن مثل “الحنة الحنة”، و”ع الصالحية”، و”يا طيرة طيري يا حمامة”، و”يا مال الشام”.
وإن كانت بعض الأغاني حديثة نسبياً وغناها صباح فخري أيضاً، فهذا يعود لما عاشته المدن الكبرى من ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة في نهايات السلطنة العثمانية والحروب، وما تزال هذه الأنماط الغنائية موجودة، وأكثرها شهرةً “العراضة السورية” المعروفة في الاحتفالات ومشهورة في دمشق وحمص.
من الداخل السوري إلى الساحل، تأثر الساحل السوري أيضاً بالتبادل التجاري مع حضارات قريبة مثل اليونان والإسكندرية وأشهر أغانيه وفنونه الساحلية “العتابا والميجانا”؛ فالعَتابا تنظم بطريقة تشبه الموال، أي تعتمد على القافية المشتركة وتختلف القافية في الشطر الأخير فقط، أما الميجانا فتكرر في بدايتها كلمة “الميجانا” كثيراً، والقافية تختم بكلمة يتوجب أن تكون فيها “نا”. أما مواضيع الأغاني الساحلية فهي متنوعة بين وطني وعاطفي،ونذكر منها “السكابا” و”الدلعونا” و”الهوارة”.
وعن تراث سهل حوران، فهو واسع جداً جغرافياً، وتأثر كثيراً بالمناطق المجاورة مثل الأردن والجزيرة العربية والعراق ومصر، فجعل من السهل موسوعة تراثية تجمع الكثير من الأنماط المختلفة. وأشهر أنماط الغناء الحوراني ورقصاته “الجوفية”. وتتميز الأغاني الحورانية أيضاً بأنها تُغنى بشكل جماعي. تتشابه موسيقى الأغاني وتختلف الكلمات، وهذا نوع من أنواع تطوير التراث.
لأن سوريا كانت حاضنة لكثير من القوميات المختلفة مثل الأكراد والشركس والسريان والأرمن والتركمان، وتعد الجزيرة السورية من أغنى الأماكن التي تتمتع بتراث مشترك. أشهر أنواع الموسيقى بين هذه القوميات:
الموسيقى الكردية، والمعروف منها آلة البزق، وتدخل في صلب حياة المجتمع الكردي في الاحتفالات وعيد النوروز. ويتشارك الأكراد مع السريان في الاهتمام الموسيقي، ويعتقد السريان أنه لم تكن هناك موسيقى عندما كانت هناك حضارة، وتتنوع الموسيقى السريانية بين ترانيم شعبية وتراتيل دينية. وإلى الموسيقى الشركسية، حافظ الشركس على لغتهم وموسيقاهم ورقصاتهم، وأشهر الآلات المستخدمة فيها الأكورديون، ويؤدون موسيقاهم ورقصاتهم في الاحتفالات والمناسبات .
حافظت القوميات السورية المختلفة على تراثها الموسيقي حتى في ظل التضييق الذي مارسه نظام الأسد المخلوع عليهم، كنوع من الحفاظ على الهوية. وتشاركوا التراث مع المجتمع السوري بكافة اختلافاته فنلاحظ أغاني مختلطة بين السرياني والكردي والعربي.
لا يمكن فصل التراث عن الثورة، ولا فصل الموسيقى عن السياسة، كان للأغاني التراثية حضورٌ كبير في الثورة السورية، ففي كل اللحظات التي تعبنا وفقدنا الأمل فيها كنا نلتف حول بعضنا البعض، نشبك الأذرع ونغني:
“سكابا يا دموع العين سكابا على شهداء سوريا وشبابا” ونكمل بحزن وأمل “ع الهودلك يابا ع الهودا ليا ما بدنا حكم الأسد بدنا الحرية” .
جمعتنا أغاني الثورة وأهازيجها ،أخذنا من التراث سمفونياتٍ نغنيها ونقاوم فيها، وصنعنا منه طوقاً يجمعنا جميعاً رغم كل اختلافاتنا. رثى الثوار بعضهم بعضاً، واحداً تلو الآخر، ترك لنا عبد الباسط الساروت الوجه البدوي الأسمر إرثاً كبيراً حزيناً بصوته الشجي وأبكانا كثيراً، وابن سهل حوران قاسم جاموس بمواويله وأغانيه. رحلوا شهداءً تاركين لنا ذاكرةً كبيرةً مثقلةً بأصواتهم وحسرتهم. نتكئ في الليالي الصعبة على هذا الإرث، ونحاول ألا تضيع أصواتهم وتضحياتهم سدى.
ما زلت أذكر صوتَ السيدات في قريتي بريف حلب وهن يرددن الأغاني التراثية في مواسم الحصاد والمناسبات والأعراس البسيطة الدافئة، أغاني من تراث القرية ذاتها والتراث الساحلي والجزراوي والحوراني، ولم أكن أعلم سابقاً بأن كل أغنية من هذه الأغاني تمثل منطقةً من سوريا، ربما لأننا كنا في خندق الظلم ذاته ونعيش الظروف نفسها جميعاً.
في المجتمع السوري نعلم جميعاً أن الأشياء التي تجمعنا أكثر من التي تفرقنا، لكننا ننسى أحياناً ويغلبنا غضبٌ مشروع. لم تنتهِ عقود حكمِ الأسدين إلا بالكثير من التضحيات والدماء والتفرقة والانقسامات المجتمعية، لكنها انتهت، وانتهى حكم الأبد، وبقينا نحن والتراث. دورنا أن نحافظ عليه ونطوِّره ، أن نجعل منه إرثاً يجمعنا ورسالةً نحملها معنا في كل مكان، كما فعل الموسيقار مالك جندلي، أن نصنع من الموسيقى ذاكرةً جديدة ونوثق قصصنا بأغانٍ وأهازيج.
أن نغني للبلاد وعنها، ونوثق كل صوتٍ وقطرةِ دمٍ أوصلتنا إلى الحرية التي نعيشها اليوم، والتي دفعنا ثمنها أعمارنا وأحلامنا، أن نحاول من جديد بناء وطنٍ وتراثٍ جامعٍ يشبه تاريخ سوريا العريق ويستحقه أبناؤها.