مجتمع
منذ اللحظة التي اندلعت فيها أحداث العنف في منطقة الساحل السوري، بدا واضحاً أن البلاد ستواجه إحدى أعقد لحظات ما بعد سقوط نظام بشار الأسد. إذ كشفت تلك الأيام، وما تبعها من اضطرابات، هشاشة البنية الأمنية، وغموض العلاقة بين الدولة الوليدة والفصائل المسلحة، والفراغ الذي خلّفه انهيار المنظومة القديمة دون بناء نظام محاسبة جديد.
واليوم، بعد 4 أشهر على تشكيلها، أعلنت “اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري” تسليم تقريرها النهائي إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، بعد انتهاء المهلة التي مُددت في وقت سابق. وفي مؤتمر صحفي عقدته في دمشق، كشفت اللجنة عن حصيلة أولية للضحايا والانتهاكات، وقدّمت معلومات تفصيلية لما جرى، استناداً إلى إفادات شهود، وزيارات ميدانية، وأدلة رقمية، ووثائق وشهادات متعددة.
الساحل السوري، الممتد بين محافظتي اللاذقية وطرطوس، شمال غرب سوريا، لم يكن يوماً منطقة هامشية في الصراع السوري. منذ 2011 وحتى سقوط نظام الأسد نهاية 2024، كانت المنطقة مركزاً حساساً للنفوذ العسكري والسياسي للنظام السابق، ومنطلقاً لكثير من عملياته الأمنية والعسكرية. وفي مرحلة ما بعد الأسد، تحوّلت المنطقة إلى مسرح صراع متعدد الأطراف بين فلول موالية للنظام السابق، وقوات حكومية جديدة، ومجموعات مسلحة محلية، وسط مطالبات محلية بالحماية، وأخرى بالثأر.
وبحسب اللجنة، فإن الأحداث تفجرت في السادس من آذار/ مارس 2025، حين شنت مجموعات موالية للنظام السابق، أطلقت عليهم اللجنة اسم “الفلول”، سلسلة هجمات منسقة استهدفت مقرات الجيش والأمن والحواجز العسكرية في الساحل، باستخدام مختلف أنواع الأسلحة.
قالت اللجنة إنها تمكنت من التحقق من مقتل 1426 شخصاً خلال تلك الأحداث، من بينهم 90 امرأة، مؤكدة أن معظم الضحايا كانوا مدنيين. وبينهم أيضاً عساكر سابقون خضعوا لتسويات مع السلطات الجديدة، وبعضهم، وفق اللجنة، قُتل بعد الاستسلام أو الإصابة أو أثناء تلقيه العلاج، فيما جرى إعدام البعض الآخر بعد أسره.
ورغم عدم استبعاد اللجنة احتمال وجود عناصر مقاتلة من “الفلول” بين الضحايا، فإنها رجّحت أن غالبية عمليات القتل جرت خارج ساحات القتال الفعلي أو بعد انتهائها، ما يشير إلى عمليات تصفية أو انتقام لاحقة.
وأكدت اللجنة أنها اطلعت على معلومات من مصادر مفتوحة عن مزيد من القتلى، لكنها لم تتمكن من التحقق من هوياتهم أو أعدادهم لغياب أسمائهم عن سجلات المقابر أو إفادات الشهود. كما تلقت بلاغات عن 20 مفقوداً، ما يزال مصيرهم مجهولاً، بعضهم من المدنيين، وبعضهم من عناصر القوات الحكومية.
بحسب التقرير، فقد توجه ما يزيد على 200 ألف مقاتل من مختلف المناطق باتجاه الساحل السوري خلال الأيام الأولى للأحداث، بهدف استعادة السيطرة على المنطقة من أيدي المجموعات المسلحة المرتبطة بالنظام السابق.
وسط هذا الزخم البشري والعسكري، تمكنت اللجنة من تحديد هوية 298 مشتبهاً بتورطهم في انتهاكات جسيمة، موضحة أن أسماءهم أُدرجت في جداول ملحقة بالتقرير، وأُحيلت نسختان منها إلى النائب العام.
وكانت اللجنة قد عرّفت مصطلح “الفلول” على أنه يشير إلى “بقايا مجموعات مسلحة منظمة مرتبطة بنظام الأسد السابق، خارجة عن القانون وشرعية الدولة، وتسعى إلى إقامة كيان منفصل في الساحل، بدعم وتخطيط وتنفيذ ممنهج”.
في محاولة لبناء رواية دقيقة حول ما حدث، زارت اللجنة 33 موقعاً في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة. وكشفت على مواقع القتل، والمقابر الجماعية، وبيوت الضحايا، بحضور المخاتير ورجال الدين وممثلي العائلات.
جمعت اللجنة 938 إفادة موثقة، منها 452 مرتبطة بجرائم قتل مباشرة، و486 تتعلق بانتهاكات أخرى كالسلب والنهب، حرق الممتلكات، أو التعذيب.
وقد استندت اللجنة إلى هذه الإفادات، إلى جانب محاضر استجواب موقوفين، وتحليل الأدلة الرقمية، لتحديد هوية 265 شخصاً يُشتبه بانضمامهم إلى مجموعات الفلول، وتورطهم في انتهاكات جسيمة ضد المدنيين والعسكريين على حد سواء.
عند فجر يوم الجمعة، السابع من آذار/ مارس، شهد الطريق الدولي الرابط بين محافظات الداخل والساحل، إحدى أعنف الهجمات، حيث نصبت مجموعات الفلول كمائن مسلحة استهدفت الرتل العسكري، وقوافل الفزعات الشعبية، وحتى سيارات المدنيين.
تسبب الكمين في سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، وفتح الباب أمام موجة فوضى عارمة، خاصة مع انسحاب بعض الوحدات النظامية لإعادة التمركز. دخلت بعدها مجموعات مسلحة عدداً من القرى والبلدات، وشهدت بعض المناطق عمليات تفتيش منضبطة، بينما شهدت أخرى انتهاكات عشوائية.
ووثقت اللجنة مجازر بحق مدنيين في الأيام 7 و8 و9 آذار/ مارس، بعضها ارتكبته مجموعات أمنية، وبعضها الآخر ارتكبته فصائل شاركت في “الفزعة” أو مجموعات محلية انضمت لاحقاً.
قال المتحدث باسم اللجنة، ياسر الفرحان، إن التحقيقات أظهرت أن الانتهاكات، رغم اتساعها وخطورتها، لم تكن منظمة. إذ توزعت المسؤولية بين جهات مختلفة، من مجموعات محلية وعناصر من الفصائل، وأفراد من أبناء المنطقة الذين فقدوا أقارب أو تعرضوا لانتهاكات سابقة.
وأشار إلى أن بعض الجهات الأمنية تعاملت باحترام مع المدنيين، في حين ارتكب بعض العناصر فظائع مروعة، وهو ما دعا اللجنة إلى الاعتقاد بأن الانتهاكات لم تكن ناتجة عن سياسة حكومية ممنهجة، بل عن انعدام السيطرة، وانفلات ميداني.
كما أكد أن التعليمات الرسمية، بحسب شهادة قادة ميدانيين، كانت واضحة بشأن حماية المدنيين. بل إن أحد القادة صرّح بأنه تلقى أمراً مباشراً من رئيس الجمهورية بالانسحاب من المعركة لحماية سكان المنطقة.
أوصى القاضي جمعة العنزي، رئيس اللجنة، باتخاذ مجموعة من التدابير العاجلة، أهمها: محاسبة المشتبه فيهم الذين وردت أسماؤهم في التقرير، من مختلف الأطراف، بمن فيهم عناصر “الفلول” والفصائل وقوات الأمن، وإطلاق برامج جبر الضرر وتعويض الضحايا، وفقاً للأصول القانونية، ودمج الفصائل المسلحة في المؤسسات الأمنية والعسكرية وفق معايير صارمة.
كما شملت التوصيات تنفيذ خطة وزارة الدفاع لضبط السلاح، وتطبيق لائحة قواعد السلوك الصادرة في 30 أيار/مايو، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان، ومواءمة النظام القضائي مع الاتفاقيات الدولية، ومراجعة قرارات التعيين والتسريح الصادرة خلال السنوات الأخيرة بما يراعي العدالة ويضمن الاستقرار الاجتماعي.
قال فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حديث لمنصة “سطور”، حول تقرير اللجنة قائلاً: “المسؤولية الآن على عاتق السلطات السورية”.
وأكد عبد الغني أن اللجنة أدّت عملها، وأن “الكرة الآن في ملعب السلطات السورية”، حيث “انتقلت المسؤولية إليها”. ودعا إلى اتخاذ خطوات حاسمة، أبرزها:
اعتقال ومحاسبة المسؤولين
طالب عبد الغني النائب العام بـ”اعتقال كل الأشخاص الواردين في تقرير اللجنة”، سواء كانوا من “الفلول” أو “الفصائل” أو “مدنيين” أو من “الأمن” أو “الجيش”. وذكر أن هذا التأكيد يعزز ما سبق أن صرّحت به الشبكة وتسبب في “هجوم شديد” عليها حينذاك، وهو أن “الأمن والجيش ارتكب انتهاكات”. وشدد على أن إخفاء هذه الحقائق يضر بمؤسسات الدولة بدلاً من أن يفيدها، وأن “الدول تدفع مبالغ طائلة لتحصل على المعلومة الصافية”.
استقلال السلطة القضائية
وأكد عبد الغني على ضرورة العمل على “استقلال السلطة القضائية في سوريا” لضمان “محاسبة منصفة للجميع”. واقترح إعادة هيكلة “مجلس القضاء الأعلى ليكون مستقلاً تماماً عن السلطة التنفيذية”، وأن يتكون من “قضاة وخبراء ومجتمع مدني” وفقاً “للمعايير العالمية لتشكيل مجلس القضاء الأعلى”. كما دعا إلى “تصحيح كامل للإعلان الدستوري” فيما يتعلق بتعيين “قضاة المحكمة الدستورية العليا” بحيث “لا يُعيَّنون من السلطة التنفيذية”.
تعويض الضحايا
وشدد عبد الغني على ضرورة البدء بـ”عملية تعويض لهؤلاء الضحايا”، والاعتراف “بمعاناتهم”، وتقديم “عمليات تعويض واسعة” عن الانتهاكات التي وقعت بحقهم “لكل الأطراف”. ودعا إلى أن يتم ذلك “بأقرب وقت ممكن”.
ورأى عبد الغني أن اتخاذ هذه الخطوات في قضية الساحل “يرسل رسالة” إلى ما يجري في السويداء، داعياً إلى تشكيل “لجنة تحقيق وطنية” في السويداء أيضاً، تستفيد من “خبرات هذه اللجنة” وتبني عليها. واقترح أن تكون طريقة تشكيلها “أكثر استقلالية” مع “دور أكبر لمؤسسات المجتمع المدني السوري المستقلة”. وخلص إلى أن هذه الإجراءات “ترسل رسالة إلى الضحايا” وتبدأ “عملية ترميم ومصالحة”.
إن تقرير لجنة التحقيق في أحداث الساحل ليس مجرد وثيقة، بل اختبار للعدالة الانتقالية التي يتطلع إليها السوريون. وهو فرصة للدولة الجديدة كي تثبت أنها مختلفة، وأنها لا تتستر على الانتهاكات، ولا تُجمّل الصورة، بل تسير نحو الحقيقة مهما كانت موجعة.
يبقى التحدي اليوم في تحويل هذه التوصيات إلى محاكمات حقيقية، وجبر للضرر، ومصالحة وطنية لا تقوم على النسيان، بل على الاعتراف والإنصاف. فهل تجرؤ السلطة على المحاسبة؟ وهل تتحول لجنة التحقيق إلى خطوة أولى نحو دولة القانون؟