مجتمع

الدروز في الكيان الإسرائيلي: انخراط بلا مساواة – قراءة أدبية إحصائية في واقع التمييز

يوليو 21, 2025

الدروز في الكيان الإسرائيلي: انخراط بلا مساواة – قراءة أدبية إحصائية في واقع التمييز

عربٌ يرتدون بزات جيش الاحتلال، يحملون رايته، ويقفون على الحدود كأوصياء بلا ضجيج، إلا أنّ الدولة التي أقسموا على خدمتها وتوسعها لم تمنحهم من المساواة سوى الوعد. هذه الأقلية التي اختارت -أو أُجبرت- على “الحياد المُنخرط”، تجد نفسها في موقع فريد: ليست عربية تماماً في أعين الدولة، ولا يهودية بالطبع، لكنها أيضاً ليست متساوية. خلف واجهة الاندماج والانضباط، يكمن واقع اجتماعي واقتصادي وتعليمي تكشفه الأرقام، وتفضحه السياسات، ويؤكده الإقصاء.

 

 

أولاً: الدروز في فلسطين قبل 1948: نظرة إحصائية وتوزّع جغرافي مُفصّل

 

اقتصر توزع أبناء الطائفة الدرزية في شمال فلسطين وخاصة منطقة الجليل وجبل الكرمل قبل النكبة، حيث بلغ تعدادهم ما نسبته 1% من مجموع السكان في نهاية عام 1947، وفيما هُجّر عدد كبير من العرب على أيدي عصابات الهاغاناه مع بدايات احتلال فلسطين، ظلت القرى الدرزية بالكامل دون حركات نزوح تذكر.

 

فيما اقتصر عمل المجتمع الدرزي قبل النكبة على الزراعة، واعتمد في معيشته على الأرض، مستمداً هويته من الجبل والتقليد، هذا الارتباط بالأرض منح الدروز استقلالاً اقتصادياً نسبياً، إلا أنه أبقاهم على هامش السوق الحديثة، دون ولوج فعلي إلى الصناعة أو التعليم المهني، ما جعلهم عرضة لاحقاً للاختراق المؤسسي الإسرائيلي السهل.

 

لم يكن المجتمع الدرزي متطوراً تعليمياً مقارنة بالمجتمع اليهودي أو المسيحي، إلا أن معدلات الأمية فيه كانت أفضل نسبياً من المسلمين العرب في فلسطين، ففي تعداد عام 1931 الذي أجراه British Census of Palestine، بلغت نسبة الأميين بين الدروز 23% فقط، مقارنة بـ57% بين المسلمين، و13% بين المسيحيين.

 

 

يرجع هذا التفوق النسبي إلى وجود عدد من المدارس الأهلية الصغيرة التي كانت تُدار من قبل رجال دين أو عائلات نافذة، إضافة إلى إقبال محدود على التعليم في حيفا أو صفد، دون أن يشكل ذلك “نهضة تعليمية” بمفهومها الواسع. كما أن التعليم كان ذكورياً في أغلبه، واقتصر على الذكور الأكبر سناً، دون أن يشمل الفتيات بشكل منظم، كما هو الحال في المجتمعات المسلمة في تلك الفترة.

 

 

ثانياً: الهوية المركبة وتاريخ العلاقة مع الدولة

 

منذ اللحظة الأولى لقيام دولة إسرائيل عام 1948، وُضعت الطائفة الدرزية أمام مفترق وجودي: إما التماهي مع واقع سياسي جديد لا يشبه تاريخها، أو الانكفاء على الذات في مواجهة سلطة دولة لم تعترف بها جماعة قومية أو ثقافية. حيث تشكلت علاقة معقدة نسبياً بين الدروز والدولة العبرية، قائمة على أساس الشراكة الأمنية لا السياسية. في منتصف الخمسينيات، حُسم المسار قسراً لا اختياراً؛ فبتاريخ 1956، فُرض التجنيد الإجباري على الشباب الدروز بمرسوم حكومي، ليُصبحوا الطائفة غير اليهودية الوحيدة التي تخضع لهذا القرار، في قطيعة تامة مع باقي المكونات العربية داخل الخط الأخضر.

نسجت هذه الشراكة باعتبارها أحادية الاتجاه، فهم جنود في الصفوف الأمامية، غائبون عن صفوف القرار. وقد قدّمت دراسات إسرائيلية داخلية أرقاماً صارخة، حيث يخدم أكثر من 80% من الدروز في الجيش، 20 % منهم في وحدات قتالية. ومع ذلك، لا تتجاوز نسبة الدروز في مناصب الضباط الكبار 1.7% من مجمل الضباط اليهود وغير اليهود، بحسب Israel Democracy Institute 2022.

 

 

فيما لا تتعدى نسبة تعيينهم في المراكز الأمنية الحساسة (الموساد، الشاباك) 0.5% رغم خدمتهم الطويلة. ومع الزمن، بدأ يُنظر إلى الدروز باعتبارهم “المواطن العربي الجيد” الذي يخدم، ويصمت، ويبتعد عن الهوية الفلسطينية، مقابل وعود مبهمة بالدمج، لكن دون ضمانات دستورية أو سياسية حقيقية.

 

 

ثالثاً: التعليم – تفوق رقمي، وعجز بنيوي

 

وفيما حفظت أسوار التقاليد والانضباط والانعزال النسبي داخل المجتمع الدرزي تماسكه الداخلي طويلاً، شكلت تلك الأسوار -مع نشوء دولة إسرائيل- حدوداً رسمية بينه وبين أدوات التمكين الحديثة، وعلى رأسها التعليم. فبين أرقام النجاح المدرسي التي تُزيّن تقارير الدولة، وبين الواقع البنيوي الفعلي الذي يواجهه الطلاب الدروز، تمتد فجوة عميقة، خرساء، لكنها دامغة.

في الظاهر، تقدم الدولة إنجازاً يُحسب للمجتمع الدرزي، فبحسب التقارير الرسمية 79.9% من الطلاب الدروز تمكنوا من اجتياز امتحان البجروت “الثانوية العامة” عام 2020، وهي نسبة أعلى من العرب المسلمين 60.3%، واقتربت من معدلات الطلبة اليهود 80.2%.

 

لكن هذا الرقم، حين يُفكك، يكشف تناقضاً صارخاً، فرغم نجاح معظم الطلاب في الثانوية، لا تتجاوز نسبة من يواصل التعليم الجامعي 15.3%، مقابل 45% بين اليهود.

 

 

السؤال الجوهري: لماذا لا يتحول هذا النجاح الكمي إلى تمكين معرفي فعلي؟

 

عانت المدارس في المناطق الدرزية كما هو الحال في المناطق العربية، ضعفاً كبيراً في الخدمات، حيث تظهر دراسات مركز Taub Center 2021 أن المدارس الدرزية تحصل على تمويل حكومي أقل بـ 20% من المدارس اليهودية، سواء في الميزات التشغيلية أو في التجهيزات التكنولوجية. إلا أنّ الأخطر في التعليم الدرزي هو المحتوى. فالمناهج المفروضة على المدارس الدرزية تفصل الطالب تماماً عن تاريخه القومي واللغوي والثقافي، يقول الباحث الإسرائيلي يارون فريدمان: “تُستخدم المدارس الدرزية منصة لصناعة هوية هجينة: ليست يهودية، وليست عربية، بل هوية خاضعة للدولة، تُحاكي الطاعة وتُنكر التاريخ”.

هذا العزل المعرفي، بقدر ما يروّج للاندماج، يُنتج جيلاً فاقداً للسياق، لا يرى نفسه في سرديات مجتمعه الأكبر، ولا يجد ذاته في نموذج الدولة الذي يُقدَّم له.

 

 

رابعاً: التمييز في التوظيف وسوق العمل

 

تشير بيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي CBS 2023، إلى أن الغالبية العظمى من أبناء المجتمع الدرزي في إسرائيل يعملون في قطاعات محدودة، ذات أجوز منخفضة، وأفق مهني محدود. كالشرطة والأمن، والجيش، وخدمات التوصيل، والبناء. في المقابل، فإن نسبة الدروز العاملين في وظائف رفيعة أو مهنية (محامين، أطباء، مهندسين، إداريين كبار) لا تتجاوز 7.2% من مجمل أبناء الطائفة العاملين.

أما على مستوى الإدارة الحكومية العليا، فتمثيل الدروز لا يتجاوز 0.6% من مجموع المدراء في الوزارات والمؤسسات العامة، رغم أن نسبتهم من السكان أعلى بـ3 أضعاف.

 

ورغم وجود أكثر من 20 بلدة درزية داخل الخط الأخضر، يعاني جميعها من غياب كامل للمناطق الصناعية الكبرى. كما أن نسبة الاستثمار الحكومي في البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية في تلك المناطق لا تتجاوز الـ 2.3% من مجموع المشاريع في البلدات العربية، والتي هي منخفضة أصلاً مقارنة باليهودية.

 

هذا الواقع يدفع الدروز، خاصة الشباب، إلى أحد خيارين، إما الهجرة الداخلية إلى المدن اليهودية بحثاً عن فرص، في ظلّ التمييز والإقصاء السكني، أو الانخراط في الجيش أو الشرطة باعتباره الخيار الأكثر استقراراً مادياً، لا الوطني بالضرورة. في هذا السياق، يظهر الجيش الإسرائيلي لا “حاضنة اندماج”، بل “ملاذاً اقتصادياً” لشباب لا يجدون بديلاً.

 

 

ورغم ما تبرزه إسرائيل من خطابات رنانة حول الدمج والمساواة، فإن الواقع يفند الحقائق، حيث تبلغ نسب البطالة بين خريجي الجامعات من الدروز أكثر من 17%، مقارنة بـ 6% فقط لدى نظرائهم اليهود.

 

 

خامساً: النازحون المنبوذون

 

مع بداية الثورة السورية 2011 وما تعرضت له المدن السورية من تنكيل واعتقالات من قبل نظام الأسد، وما تبعه من تدهور اقتصادي طال كل منزل على مساحة الجغرافية السورية، نزحت العديد من العائلات الدرزية من سوريا نحو إسرائيل. وفيما لا توجد احصائيات رسمية لعددهم، قدرت تقارير إعلامية أن الآلاف من أبناء الجولان المحتل من الطائفة الدرزية قد نزحوا بعد عام 2011 نحو إسرائيل.

 

إلا أن النسبة الأكبر من الدروز السوريين الذين وصلوا ظلوا بصفة المقيمين دون اعتراف بهم كلاجئين، وحُرموا من الحماية القانونية، التي تُمنح عادة للاجئين.

 

كما تعرض قسم كبير منهم للتمييز الواضح اجتماعياً ورسمياً، فلا تسوية وضع قانوني دائم لهؤلاء ولا ضمانات لتمكينهم اجتماعياً، حيث بيت بعض التقارير الإعلامية، عن انتشار الفقر والجريمة والبطالة بين القادمين الجدد.

 

ويبقى تاريخ الدروز في المنطقة شاهداً على أصالتهم، ففي سوريا، هم ليسوا هامشاً في النص الوطني، بل جملة كاملة في سياق الدولة، شارك أبناؤهم إخوانَهم السوريين في ثورة الكرامة، هم المواطنون وليسوا الأقلية، لم يكونوا طارئين في معادلة الحرية، بل من أوائل من رفعوا رايتها، ورغم ما تردد من خطابات وضجيج، لا ينفصلون عن نبض الوطن، بل يُكملونه، كما تُكمل الوتد جذع الخيمة في العاصفة.

شارك