آراء
ليس غريبًا أن تتحوَّل الأمكنة إلى معلم، وأنا لا أقصد هنا بالمكان مُجرَّدًا، بل بالتجربة التي لن تنالها إلَّا بوجودك في هذا المكان، هذه التجربة ذاتها التي اختار بها الله عزَّ وجلَّ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون في مكّة (ليعلّم الناس كنه التوحيد)، وهي ذاتها التي اختار بها الله عزَّ وجلَّ لنبيه (المدينة المنورة) (ليعلّم الناس كيف يعيشون التوحيد).
يبدو المكان في نظرنا القاصر مجرد قطعة جغرافية، لكنَّه في علم الله (تجربة تعليميَّة لمن أراد الله أن يعلّمه)، وكلّما كنتَ مأذونًا في خطراتك وحركاتك وسكناتك، أي تستشعر إذن الله عزَّ وجلّ في سيرك على الأرض كلّما تجلّى التعليم الإلهيّ عليك بشكل أكبر، لذلك قد يعيشُ أحدهم في بريطانيا مثلًا ثلاثين عامًا، ثم يعيش يومين في غزّة، فتتعلَّم روحه ويتفقه قلبه في يومي غزّة عن عمره الذي قضاه في بريطانيا أو أي مكانٍ آخر.
كان يجب أن يدخل يونس عليه السلام بطن الحوت، ليلهمه الله ذكر (لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنتُ من الظالمين)، هذا الذكر الذي خلّدهُ الله عزَّ وجلّ في قرآنه، بل وجعل فيه مفتاحًا من مفاتيح الفرج لكل من يقرؤه على اختلاف المكان والزمان.
وكان يجب أن يذهب يوسف عليه السلام إلى مصر عبر تلك التجربة الأليمة من تآمر إخوته عليه، لأنّه سيتعلَّم تأويل الأحاديث وسيصبح عزيز مصر، فكان يجب أن يكون فيها لينهل من تعليم الله له.
وكذلك في دقائق الحياة، كلّ مكان تسير قدماك إليه، إذا لم تشعر أنّك تتعلم (روحيًّا) فيه، هو مكان مظلم لا تستطيع عبره أن تتذوق رحمة الله وعلمه الّلدني.
أمّا على صعيد غزّة:
أفكّر كم علّمتُ روحي أن تكتشف نفسها، وأنّ الروح عالمٌ عظيم مهما حاولتُ اكتشافه فأنا قاصرة أمام علم الله في حقيقتها.
تعلّمتُ كيف يكون القرآن حياةً كاملة، فيخرج من كونه ورقًا مقدّسًا إلى كونه حياةً وتفاصيلَ ومعانيَ عظيمة، أكاد من شدة تجلّي هذه المعاني أن ألمسها بيدي.
اشتهيت اليوم أن أتناول بطاطا مقلية، خطرَتْ على بالي، لكنَّني حاولت ألا ألقي لها بالًا، ثم جلست أقرأ سورة البقرة، وفي منتصف السورة تقريبًا وجدت أخي يدخل الغرفة عليّ وفي يده
(ساندويش بطاطا مقلية) بصراحة سعدت به، وقلت سأكمل الصفحة التي أقرؤها ثم أتناوله، وكنت وصلت إلى الآية 172 من السورة، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ”، لو لم يحدث هذا معي حقًّا وأعيشه لظنَّنت أنّها قصّة سمعتها من مأثورات آل البيت وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله وضع الساندويش في يدي بالتزامن مع وصولي لهذه الآية التي لم اقرأها بعد، فعلمتُ أنّ هذا الطعام هو رزق الله، بل عشتُ هذا المعنى، كلّنا نعلم هذا المعنى، ونعتقد أنّنا نعيشه، كنّا نظنُّ أنَّنا نعيش هذه المعاني بجوارحنا وألسنتنا وقلوبنا، وكنت أفكر كيف يستطيع العبد أن يكون شاكرًا حقيقيًّا بلسانه وقلبه وجوارحه، فمن شدة غرقنا بالنعم وسهولة حصولنا عليه، مهما اجتهدنا بالشكر، لن يستطيع القلب أن يعيش هذا الصدق في الشكر كما يكون عند حالة الجوع والحرمان. بكيت وابتسمت؛ لأنني عشت معنى أن يرزقني الله من طيباته، قد يعيش الإنسان 100 عام دون أن يعرف لذَّة هذا المعنى، ويقابل الله عزَّ وجلَّ وهو لا يعرف ماذا يعني أن يطعمه الله ويسقيه.
تعلّمتُ أن أزهد بالدنيا فلا أنشغل بها أكثر ممّا يجب، وأنني طالما عرفت حقيقتها الرخيصة والتي هي أقل من جناح حشرة بعوضة، فعليَّ ألّا أحزن على ما فاتني فيها ولا أفرح بما قد جاءني بها، فيتحول حالي إلى فرحٍ دائمٍ بالله عزَّ وجلّ، وأن تفرح بالله يعني أن تستطيع شكره على عطائه وعلى منعه بالقدر ذاته، وأن تفرح بمنحه ومحنه على القدر ذاته، وأن تتذوق روحك جمال أن يكون رب العرش العظيم هو من خطّ قدرك فتعلم يقينًا أنَّ الله عز وجل يحبك أكثر من نفسك ويعلم الخير لك أكثر منك فتدرك أنّك تتقلب في نظر الله وعنايته.
تعلّمتُ أن أستشعر مَعِيَّةَ الله في كلّ أنفاسي، وتَيقَّنتُ من معنى أن يكون أقرب لي من حبل الوريد، فتغدو ترسانة الاحتلال الهائلة صغيرة، وكلُّ تهديدات العدوِّ تافهة، وكلُّ خذلان العالم ورقة توت ساقطة، فيذوقُ قلبي معنى أن يكونَ (اللهُ أكبر).