مشاركات سوريا

حرائق الغابات في سوريا: ما بين اشتعال الطبيعة وتورط الإنسان قراءة علمية في كارثة متكررة

يوليو 15, 2025

حرائق الغابات في سوريا: ما بين اشتعال الطبيعة وتورط الإنسان قراءة علمية في كارثة متكررة

– فراس الحنوش

 
 

 

في كل صيف، وكأن الأرض في موعد مع نيرانها، تتكرر مشاهد الغابات المشتعلة في سوريا وجارتها تركيا. إلا أنّ موسم حرائق عام 2025 لم يكن تكرراً معتاداً لهذه الظاهرة، فبرغم أن عدد الحرائق لم يسجل رقماً قياسياً بالمقارنة مع السنوات الماضية، كانت شدتها وقسوتها علامة فارقة في تاريخ الطبيعة السورية الحديث.

 

فينما شهدا عامي 2019 – 2020 أعلى عدد من الحرائق تبعاً لمصادر مفتوحة وبالاعتماد على صور الأقمار الصناعية عالية الدقة، إلا أن عام 2025 حمل ما هو أخطر: حرائق أقل عدداً، لكنها أشدّ تدميراً وأكثر شراسة.

 

 

تحليل البيانات بين التكرار والشدة

 

بحسب تحليل للبيانات أجراه الباحث في إدارة الكوارث بهاء الحفار، فإن اللافت في حرائق 2025 هو شدتها اللافتة، اعتماداً على المؤشرات الرقمية، المدعومة بمؤشر القدرة الإشعاعية للنار (Fire Radiative Power- FRP)، وهو مؤشر فيزيائي يقيس كمية الطاقة الحرارية التي تشعلها النار في لحظة معينة، وتنبع أهميته من تقديمه فكرة عن مدى قوة الحريق، واحتمال انتشاره، ومدى صعوبة السيطرة عليه -أي عنف الحريق- وهو أكثر دقة من مجرد عدّ الحرائق ومساحتها، حيث يعكس شدة اللهب وبالتالي مستوى الدمار المحتمل.

 

أظهر تحليل البيانات باستخدام المؤشر المذكور، أن شدة حرائق 2025 هي الأعلى منذ أكثر من 15 عاماً، بينما كان عدد الحرائق الأكبر في عامي 2019 – 2020 هو الأعلى منذ بدء التوثيق. ما يعني أننا اليوم أمام عدد أقل من الحرائق، لكن كل حريق أصبح أكثر تدميراً، أسرع انتشاراً، وأكثر تهديداً للبيئة والإنسان.

 

 

 

يظهر الرسم المرفق حرائق الغابات في سوريا في الفترة من 2010 - 2025
يظهر الرسم المرفق حرائق الغابات في سوريا في الفترة من 2010 – 2025
 

استناداً إلى بيانات تحليل حرائق الغابات في سوريا خلال السنوات الـ 15 الماضية، يتضح أن عدد الحرائق هذا العام لم يكن الأعلى على الإطلاق. فعلى سبيل المقارنة، شهدت سوريا عام 2019 ما مجموعه 34604 حرائق مسجلة، بحسب منصة Global Forest Watch -GFW المتخصصة برصد حرائق الغابات عالمياً. أما في العام الحالي، فقد سُجل 4261 حريقاً حتى لحظة كتابة هذا المقال، مقارنة بـ 12706 حرائق تم تسجيلها حتى نفس الفترة من عام 2019.

 

 

مقارنة عدد الحرائق التراكمي بين عامي 2019 وعام 2025
مقارنة عدد الحرائق التراكمي بين عامي 2019 وعام 2025

 

 

العوامل البيئة والارتباطات الإحصائية

 

ترتبط الحرائق الحراجية وحرائق الغابات بثلاث متغيرات بيئية رئيسة، وهي: درجة الحرارة، معدل الهطولات المطرية، وشدة الرياح.

فكلما ارتفعت درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة، زاد متوسط حدوث الحرائق بنسبة 7%. كما أن زيادة شدة الرياح بمقدار وحدة واحدة (كم/ساعة) ترفع من احتمالية نشوب الحرائق بنسبة 6%. في المقابل، هناك علاقة عكسية مع معدل الأمطار، فكل ميليمتر إضافي من المطر يؤدي إلى انخفاض احتمال حدوث الحريق بنسبة 4%.

 

وبالاستناد إلى بيانات معدلات الحرائق ومعدل الهطولات المطرية وشدة الرياح ودرجات الحرارة في سوريا، من عام 2002 حتى تموز/ يوليو 2025 -الموضحة في الشكل البياني أدناه- واستخدام نماذج تحليل البيانات المتقدم، يمكن بناء نموذج Models، واختصار معادلة عدد الحرائق المتوقع بالمعادلة التالية:

 

Expected daily wildfire count = Base Rate × (0.96)^Rain × (1.07)^Temperature × (1.06)^Wind

 

وفيما تعتبر هذه المعادلة نموذجاً تقريبياً، مبنياً على البيانات المجموعة، وليست قانوناً فيزيائياً مباشراً، إلا أن هذا النوع من المعادلات شائع في النمذجة البيئية للحرائق، ويساعد على فهم العلاقات السببية بين المتغيرات المناخية وخطر الحرائق.

 

ورغم شدة الرياح خلال الأيام العشرة الماضية كانت أعلى من المتوسط مقارنة بالسنوات السابقة، ما قد يُفسر نحو 30% من مجمل الحرائق المُسجلة، تشير هذه النسبة أيضاً إلى وجود عوامل أخرى غير مناخية، يُرجح أن من بينها العوامل البشرية المباشرة.

 

ويساهم هذا النوع من المعادلات، القائم على الارتباطات الإحصائية بين المتغيرات المناخية ومعدل الحرائق، في بناء نماذج تنبؤية فعّالة Forecasting Models، تُستخدم لتقدير احتمالية نشوب الحرائق في المستقبل القريب والبعيد، ويُتيح دمج هذه المعادلات مع بيانات الطقس المستقبلية المستخرجة من نماذج المناخ الإقليمي Regional Climate Models – RCMs إمكانية رصد الفترات ذات الخطورة المرتفعة، وبالتالي تحسين جاهزية الاستجابة المبكرة وتوجيه سياسات إدارة الموارد الحراجية.

 

 

بيانات الهطولات المطرية - شدة الرياح - درجات الحرارة بين عامي 2010 - 2025
بيانات الهطولات المطرية – شدة الرياح – درجات الحرارة بين عامي 2010 – 2025

 

 

 

المفقود من الغطاء النباتي

 

بموجب بيانات المنظمات الدولية المعنية بالبيئة واستخدام الأراضي لعام 2022، تغطِّي الغابات في سوريا نحو 2.8% من مجمل مساحة البلاد، أي حوالي 5,221 كم². خلال العقد الممتد من 2010 حتى 2019، فقدت سوريا ما يقارب 20% من غطائها الحراجي (≈ 63.7 ألف هكتار)، وفق دراسة مركز الأبحاث البيئي الكتالوني CREAF، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بدول حوض المتوسط الأخرى، فعلى سبيل المثال، تُقدّر خسائر الغطاء الحرجي في لبنان خلال الفترة ذاتها بأقل من 7%، وفي تركيا بنحو 4% فقط، رغم اشتداد موجات الجفاف والحرائق في كلا البلدين. كما أن إسبانيا، التي تمتلك واحدة من أكبر الغابات المتوسطية، لم تتجاوز خسائرها الحرشية 5-6% في نفس الإطار الزمني، رغم تعرّضها لحرائق سنوية واسعة النطاق.

 

 

ورغم أن الأراضي الصالحة للزراعة في سوريا تمثّل حوالي 80% من مساحة البلاد، فإن المساحات المُستغَلَّة فعليًا للزراعة لا تتعدى 5.5 مليون هكتار، أي نحو 40% فقط من تلك الأراضي الصالحة.

 

 

هذا التباين يُبرز حجم التدهور الحراجي في سوريا، ويُشير إلى تأثيرات إضافية تتعدى العوامل الطبيعية، من أبرزها الأنشطة البشرية غير المنظمة، وغياب الحوكمة البيئية الفعالة، وتداعيات النزاع المسلح.

 

 

جدول بياني يوضح مساحة فقدان الغطاء الشجري في سوريا بين 2000- 2024
جدول بياني يوضح مساحة فقدان الغطاء الشجري في سوريا بين 2000- 2024

 

 

 

غيوم الأصدقاء

 

بالتزامن مع استجابة وزارة الطوارئ والكوارث السورية، التي وُصفت بأنها سريعة وفعّالة، شهدت البلاد هبّة مدنية واسعة دعمت فرق الإطفاء والإنقاذ في مواجهة النيران المشتعلة في الساحل السوري. 

 

 

وسط هذا الزخم المحلي، أطلق مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ الأوروبي (ERCC) آلية الدعم الأوروبية عبر نظام التنسيق العالمي للكوارث GDACS (المنصة المشتركة بين الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية) التي تُعنى برصد الكوارث الكبرى وتنسيق الاستجابة الدولية العاجلة خلال لحظات.

 

تضمّن النداء السوري مساعدات عاجلة شملت معدات ثقيلة، سيارات إطفاء، قطع غيار، ووقود. جاءت الاستجابة الدولية مباشرة، حيث قدمت ألمانيا مركبة إطفاء مخصصة لمكافحة حرائق الغابات، وأرسلت فرنسا معدات دعم لمحطات الإطفاء الميدانية، وقُبلت هذه المساعدات وتنسيقها ضمن آلية ERCC.

 

 

أما تركيا، فقد أرسلت يومي 5 و6 تموز/ يوليو طائرتين من طراز Canadair و11 مركبة إطفاء برية، انخرطت جميعها في عمليات الإخماد على الأرض، إلى جانب الفرق السورية.

 

 

بالتوازي، فعّلت المفوضية الأوروبية خدمة الخرائط السريعة ضمن برنامج كوبرنيكوس (Copernicus EMSR811) في 7 تموز/ يوليو، لتقديم دعم خرائطي دقيق عبر الأقمار الصناعية. وحتى الآن، أنتج البرنامج 6 خرائط تحليلية تُظهر امتداد النيران ومناطق الخطر، مما ساهم بشكل كبير في توجيه عمليات الإطفاء والإنقاذ.

 

 

وفي الإطار الإنساني، أعلن مكتب المنسق الإنساني للأمم المتحدة في سوريا عن تخصيص 600 ألف دولار أمريكي من “صندوق سوريا الإنساني”، لدعم الاستجابة الطارئة، بما يشمل معدات الحماية الشخصية، والإمدادات الطبية، والدعم اللوجستي للمناطق المنكوبة.

 

إلى جانب الاتحاد الأوروبي، شاركت الأردن ولبنان والعراق وقطر في تقديم دعم مباشر عبر طائرات ومعدات ميدانية، فيما انتشرت على الأرض أكثر من 150 فرقة إطفاء سورية مدعومة بـ 300 مركبة وآلية ثقيلة، في ملحمة وطنية لاحتواء الكارثة.

 

 

 

الاستجابة المجتمعية وإعادة التشجير

 

في مواجهة هذا الدمار، ظهرت حملات شعبية تدعو إلى إعادة التشجير الفوري، وغالباً ما تُنظم من قبل جمعيات تطوعية أو مبادرات عبر الإنترنت. إلا أن هذه الجهود، رغم نبل نيتها، قد تؤدي إلى نتائج عكسية وخسائر بيئية أكبر إذا لم تُستند إلى دراسات علمية دقيقة.

 

فبحسب دراسة منشورة في مجلة Nature Ecology & Evolution (2021)، فإن التشجير المتسرّع أو خارج الموسم الطبيعي للنمو يؤدي إلى انخفاض معدل بقاء الشتلات، وتراجع التنوع البيولوجي بسبب غرس أنواع نباتية غير ملائمة، وتغيّر في بنية النظام البيئي، ما يُضعف مقاومة الغابات للحرائق والجفاف، الأمر الذي يقود بدوره إلى زيادة احتمالية اندلاع الحرائق مستقبلاً.

 

كما توضح الدراسة أن النُظم البيئية، خصوصاً في مناطق البحر الأبيض المتوسط، تعتمد على دورة طبيعية معقدة للتجدد الذاتي بعد الحرائق، قد تستغرق من 2 إلى 5 سنوات. ثم تمر الأرض في الأشهر الـ 12 الأولى بعد الحريق بحالة عدم استقرار يمكن استثمارها في تقييم تآكل التربة، والتغير في تدفق المياه، ومدى تعطيل التدخل المبكر هذه الدورة وتشويهه التركيبة البيئية الأصلية.

 

إلا أن الأمر يتطلب اليوم، إجراء تقييم بيئي سريع Rapid Ecological Assessment لتحديد درجة تضرر التربة وقدرتها على التجدد الطبيعي، وتحليل الأنواع النباتية الأصلية Local native species قبل اختيار أي نوع جديد للزراعة، لتجنب إدخال أنواع غريبة (invasive species)، وتحديد الفترات المناخية المثلى للتشجير، بناءً على بيانات الأمطار والرطوبة الموسمية (باستخدام بيانات من FAO، Copernicus، وNASA).

 

وتبعاً لحجم الكارثة ومعدل الحرائق وخسارات الغابات فإن الأمر يستدعي اعتماد استراتيجية عملية متعددة المستويات للحد من هذه الظاهرة. من أبرز الإجراءات الوقائية الممكنة، تفعيل فرق رقابة حراجية محلية مدعومة من المجالس البلدية والمجتمع المدني، لا سيما خلال أشهر الصيف عالية الخطورة. كما يُعدّ استخدام صور الأقمار الصناعية لرصد مؤشرات الجفاف وتراكم الوقود النباتي أداة فعّالة لتحديد مناطق الخطر وتوجيه الموارد بشكل دقيق.

 

إضافة إلى ذلك، يُوصى بإنشاء خطوط فصل نباتي (Firebreaks) لتقليل فرص تمدد الحرائق، مع تنظيم حملات ميدانية لإزالة الأعشاب الجافة حول التجمعات السكانية والغابات. وتُعدّ الحرائق الناتجة عن النشاط البشري العشوائي من العوامل الأساسية، ما يتطلب فرض حظر صارم على إشعال النيران في الأماكن الحراجية خلال الصيف، إلى جانب نشر لافتات تحذيرية وتفعيل الرقابة المحلية.

 

 

كما ينبغي تدريب السكان القاطنين قرب المناطق الحراجية على آليات الإبلاغ المبكر والإخماد الأولى، بما يعزز القدرة المجتمعية على احتواء الحرائق في مراحلها الأولى. ويُستحسن كذلك تعزيز الزراعة الحراجية المنظمة باستخدام أنواع مقاومة للنيران، مثل الخروب أو البطم، للحد من انتشار الوقود النباتي الجاف. وأخيراً، فإن حملات التوعية الموسمية عبر الإذاعات المحلية ووسائل التواصل قادرة على تغيير سلوكيات الجمهور والتقليل من مسببات الحرائق، خاصة عندما تترافق مع إجراءات رادعة وتشجيعية على حد سواء.

 

 

  • الباحث بهاء الحفار: باحث في إدارة الكوارث في معهد Karolinska Institute في السويد، واستشاري المركز الأوروبي للوقاية ومكافحة العدوى، ومؤسس شركة ResAid البحثية، المعنية بالأبحاث المتعلقة بالشأن السوري.
شارك