سياسة

من رومية إلى سوريا القادمة: محمد الأشرف وصوت السجناء المنسيين

يوليو 11, 2025

من رومية إلى سوريا القادمة: محمد الأشرف وصوت السجناء المنسيين

بقلم: أحمد الياماني

 

 

 

في ليلة خافتة من تموز، خسر سجن رومية في لبنان أحد نزلائه السوريين، محمد فواز الأشرف، المعروف باسم “محمد مالك”، بعد أن وُجد مشنوقاً داخل مطبخ السجن. والذي كان يعاني من مرض الصدفية الجلدي منذ أكثر من 3 أشهر، دون أن يتلقى العلاج اللازم. وبحسب الروايات المتقاطعة، فإن رفض السلطات المعنية إدخال دوائه، وتدهور حالته النفسية، دفعاه إلى الانتحار.

 

 

لكن مأساة محمد الأشرف ليست حالة فردية، بل عنواناِ لمحنةٍ أكبر تطال عشرات السجناء السوريين في سجن رومية، والذين يعيشون في ظروف قاسية، بلا محاكمات عادلة، ودون أي التفات من حكومتهم الانتقالية التي جاءت بعد إسقاط نظام الأسد المستبد.

 

 

نظام دفعهم.. وحكومة تتجاهلهم

 

هؤلاء السجناء لم يُسجنوا في لبنان بإرادتهم، بل دفعتهم آلة القمع السورية إلى الهرب من الاعتقال السياسي في بلدهم. كان النظام السوري السابق مسؤولاً بشكل مباشر عن تهجير آلاف المعارضين، الذين وجد بعضهم أنفسهم في قبضة أجهزة الأمن اللبنانية. لقد فَرّوا من معتقل إلى معتقل، ومن جحيم الطغيان إلى صمت الجوار.

 

منذ سقوط نظام الأسد المستبد، طالب النشطاء السوريون والمعنيون بحقوق الإنسان بالكشف عن مصير المعتقلين السوريين في سجن رومية، ومعالجة أوضاعهم القانونية والإنسانية، لكن الحكومة السورية الانتقالية واجهت هذه المطالبات بصمت مريب. وبينما تتعالى الشعارات حول العدالة والحرية في سوريا الجديدة، ما يزال العشرات من السجناء السوريين في رومية يعانون ظلماً مزدوجاً: ظلم الغربة، وظلم الإهمال. أغلب هؤلاء لم يُحاكموا حتى اليوم، ولا يتمتعون بأي دعم قانوني أو دبلوماسي، رغم أن معاناتهم تمثل وصمة في جبين أي مشروع وطني يدّعي الانحياز للكرامة والحقوق.

 

 

تواطؤ الأجهزة اللبنانية وتمدد القمع عبر الحدود

 

الخطورة لا تكمن فقط في استمرار اعتقال السوريين المعارضين داخل الأراضي اللبنانية، بل في أن بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية كانت، وما تزال، على علاقة وثيقة بنظام الأسد، وشاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في تعذيب واعتقال المعارضين السوريين داخل لبنان. لقد تحوّلت بعض الزنازين في لبنان، كما يؤكد حقوقيون وناشطون، إلى امتداد لدوائر القمع السورية، حيث تم تسليم معتقلين قسراً، أو ممارسة التضييق عليهم بإيعاز من السفارات أو الأفرع الأمنية.

 

 

وفي حالة سجن رومية، بات من الواضح أن هناك تغاضياً منهجياً عن معاناة السجناء السوريين، وكأن بقاءهم في الظل يُرضي جهات أمنية ما تزال تنظر إليهم كأعداء، لا ضحايا حرب أو لاجئين فارين من الموت. هذا التواطؤ لا يمكن السكوت عنه، وهو ما يجعل ملف سجناء رومية السوريين ملفاً شائكاً يتطلب فضحاً ومحاسبة، لا بيانات دبلوماسية باردة أو وعوداً فارغة.

 

 

سجون بلا رقيب وكرامة منتهكة

 

منذ توقيف محمد الأشرف قبل عامين ونصف العام، لم تُعقد له جلسة محاكمة واحدة. عاش في عزلة تامة، وسط الإهمال الطبي، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في زنزانة لا تدخلها الشمس. هو واحد من عشرات السوريين في رومية الذين يواجهون مصيراً غامضاً. لا أحد يعلم عددهم الدقيق، ولا توجد آلية واضحة لمتابعتهم قانونياً، رغم أن بعضهم معتقل منذ سنوات.

 

لبنان، الذي يعاني من أزمات متلاحقة، لا يبدو قادراً ولا راغباً في معالجة هذا الملف بالشكل العادل. وفي ظل غياب رقابة حقوقية دولية، يتحوّل السجن إلى مكان للتنكيل، لا لإعادة التأهيل.

 

 

 

السجن: محطة أم منفى أبدي؟

 

في الدول الديمقراطية، السجن مؤسسة مؤقتة لإعادة تأهيل الفرد، لا لإعدامه البطيء. في سجن رومية، تُختزل إنسانية السجين السوري إلى مجرد رقم، وتُهمّش حقوقه الصحية والنفسية، ويُعامل على أنه خطر محتمل لا ضحية لصراعات سياسية. محمد الأشرف لم يطلب الحرية، بل العلاج. لم يُطالب بإعفاء، بل بمحاكمة. لكنه واجه الموت بصمت، في زوايا سجنٍ تجاهله الجميع.

 

 

 

مناشدة للحكومة السورية والمجتمع الدولي

 

ما جرى في رومية، وما يجري كل يوم، ليس شأناً لبنانياً داخلياً فقط. بل هو قضية وطنية سورية بامتياز. تقع مسؤولية فورية على المعارضة السورية، وعلى الحكومة الانتقالية، في المطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، أو على الأقل تأمين حقوقهم القانونية والطبية.

 

كما يجب على المجتمع الدولي، خاصة المنظمات الحقوقية، أن تضغط على الحكومة اللبنانية للكشف عن أوضاع المعتقلين السوريين، وأن تمنع ترحيلهم إلى سوريا حيث قد يواجهون الموت أو التعذيب.

 

 

لا تُكرّروا الجريمة بصمت جديد

 

من يُسجن بسبب رأيه، لا ينبغي أن يُنسى فقط لأنه عبر حدود وطنه. ومن تُهمل قضيته في السجون، لا يجب أن يُترك لأن الأولويات “أكبر”. إنّ من يرضى بأن تُدفن الأصوات الحرة في الزنازين، حتى خارج حدود وطنه، لا يختلف كثيراً عن الطغاة الذين اعتقلوها أول مرة.

 

محمد الأشرف لم يمت فقط في رومية، بل مات في صمت المرحلة الانتقالية. مات في ظل حكومة وعدت بالكرامة، لكنها لم تنصف أبسط ضحاياه.

 

 

خاتمة: من رومية تبدأ العدالة

 

إذا كانت سوريا الجديدة تُبنى على الكرامة، فإن الكرامة تبدأ من زنزانة رومية. إذا كنّا نريد مشروع وطن لا يُقصي أحداً، فعلينا أن نرفع الصوت باسم من لا صوت لهم. فالسجين السياسي ليس عبئاً، بل هو شاهد على الألم، ودليل على الظلم الذي نحاول تجاوزه.

فلتكن قضية سجناء رومية السوريين بنداً أول في جدول الكرامة الوطنية. لا من باب العاطفة، بل من باب العدالة.

شارك

مقالات ذات صلة