أدب

لَنْ أَعِيشَ في جِلْبَابِ أَبِي.. مُفَكِّرٌ وَلَاعِبُ تِنِسٍ يَشْتُمَانِ أَبَوَيْهِمَا!

لَنْ أَعِيشَ في جِلْبَابِ أَبِي.. مُفَكِّرٌ وَلَاعِبُ تِنِسٍ يَشْتُمَانِ أَبَوَيْهِمَا!

قضيتُ هذا الأسبوع في قراءة قصة سيرة حياة لاعب التنس أندريه أغاسي بعنوان “بطولة“، التي صَبَّ فيها كثيرًا من الشكوى عن معاناته في سنوات الطفولة على يد والده، وعزا إليه كراهيته للتنس، وإرغامه على سلوك هذا الطريق. ورغم أنه تفوَّق في اللعبة وأصبح أحد الأبطال وجنى من التنس المال الوفير والشهرة، فإنه يلوم والده على عدم قدرته على التعبير عن مشاعره، وأنّه دمَّر أخاه فيلي عبرَ الضغط عليه للعب التنس، ووصْفِه لأخيه بأنّه فاشل عندما يخسر في المباريات.


العلاقة مع الآباء في السير الذاتية.. هل المفتاح في الطفولة؟

لديَّ قناعة تتشكل منذ فترة بسبب الغرق في قراءة المذكرات أنّ الأجانب يحوِّلون الأب إلى شماعة مصائب المراهقة وضياع الفتوة. فتح البابَ فرويد، وتبعه جماعة مِن أهل الطب النفسي. الفكرة التي أناقشها معكم هي أنّ سنوات الطفولة جرى تكبير أثرها في وعي الإنسان الفرد، وتجاهل فترات لاحقة تؤثر في قناعاته وشخصيته، وفي المحصلة أصبحت معاناة الطفولة عذرًا لكل خطل الشباب. رأيت ذلك في مذكرات الممثل ماثيو بيري، الذي جعل غرامياته وحُبَّه للنساء نتيجةً لجمالِ أُمِّه ودخولِها في علاقة عاطفية بعد الطلاق من والده، وكاد يجعل إدمانه للكحول والحبوب نتيجةً لتصرفات الأب. أتفهَّم أثر هذه الفترة في الإنسان، لكن من المهم الانتباه إلى مَن يجعلها مفتاحًا للشخصية ويتجاهل الظروف الأخرى. تشترك هذه الشخصيات من لاعب التنس إلى الممثل ماثيو بيري مع الكاتب إدوارد سعيد في هجاء حضور الأب في حياتهم.


عقدة إدوارد سعيد من الأب

إدوارد سعيد وُلد عام 1935 في القدس لأب يعمل في التجارة، وحُرِم سعيد هو وعائلته من البيت والوطن بسبب الانتداب البريطاني والعمليات العسكرية الصهيونية التي قام بها الإسرائيليون. كان سعيد تلميذًا لامعًا، وكان مولعًا بآلة البيانو منذ الصغر، وترعرع في صباه في القاهرة.

كتب إدوارد سعيد سيرته بعنوان “خارج المكان“، أو كما يفضل البعض ترجمتها “اغتراب“، دوَّنَها وهو مصاب بسرطان الدم (اللوكيميا)، ليثأر من والده. ورغم شهرة سعيد الأكاديمية ومسيرته الفكرية المهمة، فقد فكَّر في كتابة المذكرات باعتبارها طريقة تساعده على التعبير عن أفكاره بشأن والديه، وخصوصًا الأب الذي كان قاسيًا جدًّا عليه. يعزو إدوارد إلى والده أنه صَبَّ نوعًا من الانضباط على حياته، وهو شيء لم يستطِع التخلُّص منه لاحقًا. عرَّى سعيد روحه في سيرته وكشف عن أشياء يُفضِّل كثير من الناس الاحتفاظ بها لأنفسهم. اعتبر سعيد طفولته تعيسة وأنها لم تكُن سعيدة قَطُّ. قرأَتْ له أُمُّه روايات تاريخية مثل روايات جورجي زيدان، لأنه لم يكُن مسموحًا لهم استخدام التليفزيون.

وصل سعيد إلى الولايات المتحدة في عام 1951، ورغم تفوُّقه في الدراسة فقد فشل في الشعور بالثقة بالنفس، لازَمَهُ الشعور بالضآلة والإهمال، وعندما حضر والده حفل تخرُّجه في مدرسة “ماونت هيرمان” عام 1953، أتى بمفرده حيث كانت الأُمُّ مشغولة بتربية أخواته الأربع الأصغر منه، ولم تكُن تستطيع أن تتركهنّ بمفردهنّ، كما أنّ الرحلة طويلة من مصر. وصل الأب وكان سؤاله الأول الذي لم يَنْسَهُ إدوارد، والذي يتذكر أنّ والده طرحه على المدرسين، هو: “كيف أبلى إدوارد؟”.

فكانت الإجابات أنه أبلى بشكل جيِّد، فقد كان يحتل الترتيب الأول أو الثاني على الفصل، فردَّ والده على مُعلِّمي إدوارد: “نعم، لكن هل قدَّم أفضل ما لديه؟”.

ليتهم أجابوا إجابة مُرضيَة لهذا السؤال المرهِق -كان إدوارد سعيد ارتاح وخلصنا- لأن معظم الإجابات كانت “ليس تماما، كان بإمكانه تقديم الأفضل”، وهنا يصيح الأب بطبيعة الحال ويقول: “إذًا كان باستطاعته تقديم الأفضل”. وهذه القصة أشعرت إدوارد بقِلَّة الثقة بالنفس والتقصير الدائم، ولا يَظُنُّ إدوارد أنّ والده كان ينتقص منه عن عمد، فالإيجابي في ضغط والد سعيد أنّ هذا الشعور يمنعه من الارتكان أو الاعتماد إلى إنجازاته، مما يدفعه إلى الإنجاز المستمر.

هذه القصة ينطلق منها سعيد ليقول إنَّ حقيقة وجود شيء لم يفعله على نحو جيِّد، وكان يستطيع أداءه بشكل أفضل، لازَمَهُ على الدوام في حياته.

وهذه قصة أخرى قرأتها أمس في الليل في مذكرات لاعب التنس وهو يفوز ببطولة “ويمبلدون” ويتصل بوالده ويلومه الوالد على خسارة إحدى المجموعات أو جولة من داخل المباراة التي فاز فيها بالكأس، ويؤنبه ويقول له: “كان بالإمكان أن تكون أفضل، أنت يجب أن تكون اللاعب الأول في العالم”. وترك هذا الضغط أثره في لاعب التنس والمفكر.


والد إدوارد سعيد في أعيُن أخواته

كان وديع والد سعيد بطبعه منغلقًا على نفسه ولا يُفصِح عما يدور في خلده، هذا الأب يخيِّم ظِلُّه على كلِّ جملة من جمل السيرة “خارج المكان“. ويُشير كتاب “أماكن الفكر” للكاتب تومسي برنن (صدر عن “عالم المعرفة”) إلى أنَّ أخوات سعيد أزعجتهنّ الصورة التي وجدنها عن أبويهنّ في سيرة “خارج المكان”، فبدلًا من صورة الأب الطاغية المتصلب والجاهل في الأمور العاطفية الذي عانى الانهيار العصبي، بدا أبوهنّ لهنّ أبًا رقيقًا هادئًا عامَلَهنّ بالحب والعطف، وأنّه حَمَلَ ابنته جين في حضنه طَوال الليل عندما أصيبت بالمرض، وغنى لها، ولاعبها بالحيل السحرية. وهذا التناقض يشككنا في تصورات بعض المؤلفين عن طفولتهم واختلاف الرواية من ابن إلى آخر، ويجعلنا لا نسلِّم بهذه الروايات تمامًا.

استاءت أخوات إدوارد سعيد منه لأنهنّ شعرنَبصفتهنّ أخوات- بأنه حصل على الجزء الأفضل من الصفقة، لقد جعل الأمر يبدو كأنه كان هو المضطهَد، ولكنه لم يكُن كذلك من وجهة نظر أخواته البنات.


مَن أحرق القاهرة؟

تبقى ملاحظة مهمة ذكرها الكاتب تومسي برنن في “أماكن الفكر” عن حريق القاهرة، فقد كانت عائلة إدوارد سعيد تقضي إجازتها في ضهور الشوير عام 1952، عندما سمعَت عن حريق القاهرة في الراديو، وحريق محل القرطاسية الذي يملكه وديع والد إدوارد سعيد في القاهرة، حيثُ هاجم الناس الفنادق والمدارس والمتاجر والمطاعم وكل ما تشتمُّ منه المصالح الأجنبية، لقد أُحرِق قلب القاهرة بما يضمُّه من محلات راقية، ودُور سينما وبارات. من الغريب -كما يشير الكتاب- أن يَنسُبَ سعيد لاحقًا الحريق إلى الإخوان المسلمين، دون دليل تاريخي على هذه التهمة.

يُشير الناقد الكبير عبد الفتاح كيليطو في محاضرته بعنوان “صورة المثقف كحَمّال” إلى أنَّ مَن يقرأ مذكرات إدوارد سعيد “خارج المكان” يعلم أن أحد هواجسه المُلِحّة (أو عِلَلِه كما يُسمِّيها) مرتبط بخشيته أن يصير أحدبَ، فهو يخصص عدة صفحات من “خارج المكان” لوصف جهوده المضنية لتقويم اعوجاج ظهره، على حد قوله. وارتباطًا مع هذا الهاجس تبرُز صورة الأب بقوة: «سنوات بذلها أبي من المحاولات لجعلي أقف مستقيمَ القامة، “الكتفان إلى الخلْف”، كان يقولها بالإنجليزية، فتُضيف الأم بالعربية: “لا تسْترْخِ”». ومراعاة لرهافة شعوره ودرءًا للحرج، يكتفي الأب أمام الناس بكلمة واحدة: «ظَهْر».

يكمل كيليطو: “وحين يستبدُّ الحنين بالتلميذ إلى أهله وهو في الولايات المتحدة، يسحب حقيبة ضخمة من تحت السرير، ويقلّب في ألبومات الصور والرسائل فيجهش بالبكاء، لكنه سرعان ما يتذكر قول والده: «استقِم! شُدّ ظهرَك إلى خلف، ظهرك، ظهرك»”.

يفسر كيليطو هذه التعليمات بقوله: “بغضّ النظر عن الجانب الفسيولوجي، يوحي كلام الأب بمعانٍ أخرى لتقويم الظهر: الاستواء، الاستقامة المعنوية، المشي مرفوع الجبين، التغلب على نزعة الانكماش واللامبالاة، الجرأة على المجابهة والصمود.. صفات أساسية للمثقف الحقّ كما سطّرها سعيد في {المثقف والسلطة}”.

ذات مرة سأل إدوارد والده كيف كانت تجربة الحرب التي شارك فيها في شبابه، فروى له قصةً عن إقدامه على قتل جندي ألماني من مسافةٍ قريبةٍ وكان «رافعًا يديه، وأطلق صرخةً عظيمةً قبل أن أُطلق عليه النار». وقد ظلَّت الكوابيس عن تلك الحادثة تراود والده وتقضُّ مضجعه خلال سنوات عدة. وبعد وفاته، عندما اضطُرُّوا لسبب ما إلى سحب أوراق تسريح والده من الجيش الأمريكي (وقد ظلَّت مفقودة طِوال خمسين سنة)، ذُهِل سعيد لاكتشافه أنّ والده كان عضوًا في فريق التموين، لم تُسجَّل له أيُّ مشاركة في حملة عسكرية معروفة. ولعلّ في الأمر خطأً ما، لأنّ إدوارد ما زال يصدِّق رواية أبيه في مذكراته. يحلل سعيد حياته الشخصية ويعتبر تربية والده أشبه بشرنقة جبارة أُدخِل إليها وحُبِس بكلفة باهظة، ونتج عنها قلة شعوره بالاسترخاء وافتقاره إلى الشعور بالإنجاز التراكمي.


ظل إدوارد ينادي أباه “دادي” إلى حين وفاته، على أنه كان يشعر دائمًا أنّها تسمية عَرَضية، ويتساءل ما إذا كان يجوز أصلًا أن يعتبر نفسه ابنه، فهو لم يطلب منه طلبًا دون توجُّس كبير وساعات من الإعداد المحموم. وأبشعُ ما قاله له والده إطلاقا -وكان في الثانية عشرة- هو: «إنك لن تَرِث مني شيئًا. أنت لست ابنَ رجل ثريّ”، مع أنّه كان فعلًا ابن رجل ثريّ.

تزوَّج إدوارد سعيد ومريم في عام 1970، وبدا أنّ كلّ شيء على ما يرام، وبعد سنتين زار إدوارد لبنان مع زوجة جديدة وطفل صغير اسمه وديع (على اسم أبيه)، وأدّى سعيد دَوْر ربِّ الأسرة، وكان الأب قد تُوفّي في شهر فبراير من عام 1971 بعد صراع مع سرطان الجلد، وبذلك زال الجدار العاطفي الذي كان يفصلهما، ولكن ظلّ قدر كبير من الأشياء التي لم تُقَل، والتي ستبقى كذلك إلى الأبد. وفي جلسة مبللة بالدموع مع المعالج النفسي، سكب سعيد مشاعره حول الصلة التي ظلّ يبحث عنها مع أبيه ولم يجدها، وكانت آخر كلمات والده لسعيد قبل وفاته: «أخشى ممّا قد يفعله الصهاينة بك، خذ الحذر».

شارك

مقالات ذات صلة