مجتمع

القمع حين يصير نظاماً: من عنف الدولة إلى صمت الزنزانة

يوليو 7, 2025

القمع حين يصير نظاماً: من عنف الدولة إلى صمت الزنزانة

– طارق محمد عبد الغفار

 

 

 

في كل مجتمع يختطفه الاستبداد، يتحوّل القمع من حدث عابر إلى نظام متكامل: جهاز أمني، منظومة إعلامية، جهاز قضائي مطاط، وبيئة عامة تُكافئ الخضوع وتُجرّم النقد. هذا التحول من قمع طارئ إلى قمع مؤسسي هو ما ميّز الأنظمة التسلطية في القرن العشرين والقرن الحالي، من ألمانيا النازية وروسيا الستالينية إلى أنظمة عربية حديثة استنسخت مزيج القسوة والترويض.

 

 

لقد كتب كثيرون عن هذه البنى، مثل بيير بورديو في عنف اللغة حين كشف كيف تتحوّل الكلمات إلى أوامر وأحكام، وكأن اللغة نفسها تُسَخَّر لتسويغ البطش، أو فرانسوا بورغا في تحليله العميق لأدب السجون العربي الذي يوثق مسارات سحق الفرد لصالح دولة لا ترى في الإنسان إلا مشروع خطر يجب تحطيمه.

 

 

 

القوقعة: شهادة حية على دولة الخوف

 

 

هنا تحديداً تتجلى رواية القوقعة لمصطفى خليفة نصاً نادراً يفضح عمق هذا النظام القمعي في سوريا، لا من خلال تحليل سياسي مباشر، بل عبر سيرة جسدية وحسية عاشها الراوي لحظة بلحظة في سجن تدمر الصحراوي سيئ الصيت، يجرّك جرجرةً إلى قلب جهنّم، حيث لا صوت يعلو فوق صرخات المعذَّبين، ولا زمن يمرّ إلا مقطَّعاً بين سياط الجلاد وخوف السجين.

 

هنا، تتحوّل الكلمات إلى أصوات متكسِّرة، واللغة نفسها ترتجف كما لو أنها جسد يتعذّب مع صاحبه.

ما يجعل هذه الرواية استثنائية ليس فقط موضوعها، بل قدرتها على أن تنقل الإحساس اليومي للدهشة والألم والمهانة. لا أحداث كبيرة خارقة، بل تراكم بطيء للخوف والتحلّل النفسي:

 

 

التهديد كظل يومي لا يغيب.

فقدان الزمن: حيث تتساوى الأيام حتى يذوب الشعور بالتسلسل الزمني.

تقلّص الحلم: لتصبح النجاة من ليلة التعذيب أكبر ما يتمناه السجين.

تقدّم القوقعة السجن على أنه ليس مكاناً مادياً فحسب، بل كياناً يبتلع الإنسان: الجدران لا تحبس الجسد فقط، بل تسيّج الأفكار واللغة والذكريات.

 

 

 

لغة ترتعش تحت الضرب: تشريح النص

 

 

تكاد تكون لغة خليفة في القوقعة أحد أهم أبطال الرواية:

  1. لغة مقطّعة كأنفاس تحت السياط

الجمل قصيرة، لا تسير بهدوء، بل تتكسّر في منتصفها. القارئ لا يجد نفسه يقرأ نصاً بقدر ما يسمع تردّدات الخوف في فراغ الزنزانة.

  1. إيقاع التعذيب

تتردّد في النص أصوات السياط، صرخات الضحايا، أزيز الأبواب الحديدية. خليفة يكتب بلغة تؤدي وظيفتين: توثيق الألم وإشراك القارئ فيه حد الاختناق.

  1. المفردات رائحة للتعذيب

كلمات مثل “سيخ”، “كرابيج”، “القدمين”، “الصراخ” تظهر مئات المرات، لتجعل العنف مادياً محسوساً، وتذكّر بأن هذا الرعب ليس فكرة بل ممارسة يومية.

  1. صمتٌ أفصح من الكلام

في لحظات كثيرة، يترك الكاتب مساحات بيضاء في السرد، أو ينهي المشهد فجأة قبل بلوغ الذروة، كأن هذا الصمت جزء من بنية الرعب: ما لا يقال أشد رعباً مما يقال.

 

 

 

تفتت الجماعة: من التضامن إلى الشك

 

 

رغم تقاسم المهجع ذاته، لا تنشأ بالضرورة روح جماعية؛ بل على العكس، يحكي خليفة عن تصدّع الثقة حتى بين السجناء الذين يفترض أنهم إخوة في المصير. يتحوّل الدين والطائفة والانتماء السياسي إلى ذرائع للتفرقة داخل السجن، تماماً كما يُستخدمون خارجه لتمزيق المجتمع. هذه الملاحظة البسيطة في الرواية تفضح آلية أساسية في الأنظمة القمعية: إدامة الخوف عبر خلق عداوات أفقية بين المقموعين.

 

 

 

التلصص: القوقعة الثانية بعد السجن

 

 

حتى بعد الخروج، يظل البطل أسيراً لعادة التلصص التي صنعها السجن: “أحاول أن أغلق أصغر ثقب فيها.. وأتلصص إلى داخلي أنا.” هنا تظهر قوقعة جديدة: قوقعة ما بعد السجن، حيث السجين السابق يعجز عن التواصل الطبيعي مع الخارج، لا يرى الوجوه، لا يشعر بالألفة. الحرية تصبح فضاءً موحشاً يضيع فيه، ويكتشف أن سنوات الاعتقال لم تُبقِ خلفها زنزانة فقط، بل حفرت قوقعة في داخله لا فكاك منها.

 

 

 

شاعرية القبح: عنف جمالي لا واعظي

 

 

ليست القوقعة نصاً دعائياً أو خطاباً سياسياً مباشراً؛ قوتها تأتي من كونها أدباً أصيلاً يقدّم الجحيم بلغة تمتزج فيها القسوة بنبرة شاعرية قاتمة:

صور جسدية جارحة: اللحم المتطاير تحت الكابل، الروائح التي تصفها حروفه كأنها تلسع القارئ.

صور نفسية مراوغة: الزمن المتشظي، الاستسلام البطيء، حلم اليقظة الذي يصبح طوق نجاة ووحشاً معاً.

أسئلة معلّقة: “إلى متى؟”؛ سؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يكشف عبثية الوضع.

 

 

 

القوقعة مرآة لأنظمتنا

 

 

لا تنتهي القوقعة بحل أو أمل زائف؛ تنتهي بتشخيص دقيق لكيف يصنع النظام الاستبدادي مواطناً عاجزاً عن الحياة حتى بعد تحرره جسدياً. هي رواية تتجاوز مأساة كاتبها لتصبح مرآة لعشرات المجتمعات العربية التي ما زالت تمارس سحقاً يومياً، في الزنازين أو في اتساع الشوارع.

إن قراءتها اليوم ليست استعادة لماضٍ بعيد، بل مواجهة راهنة مع آليات قمع لم تندثر. وكتابتها بصدقها الوحشي وشاعريتها السوداء تبقى ضرورة كي لا نصبح جميعاً أسرى قوقعاتنا في صمت أو في وهم الأمان.

شارك