مشاركات سوريا
لم يكن إطلاق الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية مجرّد تحول شكلي أو تحديث بروتوكولي يرافق مرحلة سياسية جديدة، بل مثّل في جوهره لحظة تحرّر وجداني وقطيعة رمزية مع سرديات القهر المتجذرة في ذاكرة السوريين. فعلى مدى عقود من الحكم الاستبدادي، سُخرت رموز الدولة من أعلام وتماثيل وشعارات وصور بوصفها أدوات سلطة وهيمنة، لا بوصفها تجسيداً لمعانٍ عليا كالوطن والمواطنة والانتماء. وغدت تلك الرموز محفزات عصابية تستدعي الخوف والحزن والغضب وتعيد إنتاج الألم في كل ظهور، لتتحول إلى ما يُعرف في علم النفس بالـ”زناد الشعوري” (Emotional Trigger)، الذي يستنهض في اللاوعي مشاعر الخوف والإذلال والانقباض، دون حاجة إلى عنف ظاهر أو تهديد مباشر، ودون إمكانية تفسير هذه المشاعر وربطها بمسبب مباشر وواضح.
على مدى عقود من حكم حزب البعث وسلطة الأسدين وُظفت مؤسسات الدولة ورموزها لخدمة الأب ثم الابن على حساب قيم الحرية والكرامة ومصلحة الشعب السوري، فتحول علم البلاد إلى خلفية لصور الرئيس، والمدارس إلى منابر لترديد شعارات التمجيد، والمناهج إلى أدوات لغسل العقول والساحات العامة، وصارت مداخل المدن والمؤسسات والشوارع والسفارات معارض لصور الحاكم وعبارات الولاء ورموز تذكر المواطن السوري كل يوم بالرعب الجاثم.
أدى هذا التوظيف إلى ترسيخ الخوف كحالة جمعية متوارثة جيلاً بعد جيل وحوصر المواطن بالرموز السلطوية التي تجردت من دورها الحقيقي بأن تكون مصدراً لمشاعر المواطنة والفخر والانتماء والطمأنينة والأمان، وتحولت إلى مصدر للرعب والرهبة وترسيخ القمع والهيمنة.
عندما يمر الانسان بحدث صادم أو يعيش تجربة مؤلمة لا يخزن الدماغ الحدث فحسب؛ بل تتخزّن جميع المحفزات الحسية المرتبطة بتلك اللحظة: صورة، صوت، رائحة، كلمة، أو عبارة أو حتى شعور جسدي عابر، وفي الغالب لا تُخزن جميع هذه المحفزات بشكل واع لكنها تكون مرتبطة بالألم ومشحونة بمشاعر ثقيلة، كفيلة بمجرد التعرض لها مجدداً أن تعيد إنتاج الشعور.
مثلاً قد يرتبط هطول المطر بوفاة شخص عزيز فنشعر بالكآبة كلما هطل المطر، أو قد يشعر شخص ما بحزن أو ينقبض صدره بسبب رائحة شمها أو لون رآه دون فهم أو معرفة السبب الحقيقي لهذا الشعور. هذا تماماً ما يُسمى بالزناد الشعوي الذي يستدعي مشاعر قديمة ودفينة بشكل مفاجئ، وقد يكتفي بمحفز واحد فقط مهما كان بسيطاً لإطلاق الزناد واسترجاع الشعور بكل ثقله دون أن يتمكن العقل الواعي من تفسير السبب أو الشعور وربطه بالحدث الصادم الأصلي أو حتى بالمحفز.
في الحالة السورية كانت المحفزات كثيرة ومركبة ومتشابكة والألم عميق، فرموز النظام من شعارات وتماثيل وصور نشرها في كل مكان كانت زنادات شعورية محفورة في الذاكرة الجمعية تعيد إنتاج الخوف والذل والغضب، خاصة لأولئك الذين عاشوا تجارب قاسية أو مواقف قمعية.
روت لي سيدة ذات مرة كيف أنها في كل مرة تمر من الشارع الذي اعتُقل ابنها منه تعاني من تسارع ضربات القلب وتشنج في العضلات وارتعاش في اليدين وتعرق مفاجئ، كان جسدها يعيد تجسيد التجربة دون إذنٍ منها، لكن في حالة هذه السيدة كان من السهل عليها أن تفسر السبب لأن المحفز واضح وبإمكانها تجنبه، لكن الخطورة تكمن في تلك المحفزات المخفية والبسيطة التي تسكن في اللاوعي ويصعب علينا ربطها بالتجربة المؤلمة، ولا يمكن التنبؤ متى سينفجر الزناد.
أتذكر جيداً زيارتي الأولى لسوريا بعد سقوط النظام، عندما رأيت حينذاك حاجزاً للأمن العام وغمرتني مشاعر فخر كبيرة واعتزاز، وعندما حاولت مراجعة الموقف وتفسير التحول الجذري بمشاعري نحو الحاجز الأمني وجدت أن تغيّر شكل ملابس رجال الأمن وسياراتهم والراية المرفوعة -راية الثورة التي حملها السوريون وتمسكوا بها رمزاً للتحرر والكرامة – كان لكل تلك التغيرات البصرية أثر عميق ساعدني بشكل كبير على الانتقال السلس من مشاعر الخوف والقلق إلى الاطمئنان والأمان، ومن النفور والعار إلى الفخر والانتماء.
وهذا تماماً ما ينطبق على الكثير من السوريين الذين عاشوا تجارب مؤلمة في مؤسسات الدولة القديمة خاصة الأفرع الأمنية، فرؤية رمز كان معلقاً في غرف التعذيب سيسبب إعادة إنتاج الألم ويعيق رحلة التعافي.
من هنا، فإن تجديد الهوية البصرية للدولة وتفكيك رموز النظام البائد ليس فقط إجراء سياسياً أو شكلياً أو بروتوكولياً، إنما ضرورة نفسية واجتماعية تمنح المواطنين فرصة عظيمة لإعادة بناء تصورات جديدة عن الدولة وكسر الارتباط النفسي بين رموزها والقمع، إضافة إلى تحرير الوجدان من زنادات شعورية محتملة.
من أبرز تجليات الزناد الشعوري في الواقع السوري المعاصر حالة الرفض الكبير لأي مظهر من مظاهر تمجيد القائد الجديد. المدهش أن هذا الرفض الحاد لا يتبناه معارضو الحكم الحالي فحسب بل يتبناه أشخاص مؤيدون لا يخفون دعمهم أو إعجابهم، لكن حالة التمجيد ارتبطت في الوجدان بواقع القمع والإكراه.
في المقابل، سلوك تمجيد القائد قد لا يعبر دائماً عن الولاء، بل يكون في كثير من الأحيان وسيلة دفاعية نفسية تمنح صاحبها شعوراً زائفاً بالحصانة أو القبول الاجتماعي، خاصة أن هذا السلوك في زمن النظام البائد كان سبباً كافياً ليحصل من يفعله على الكثير من الامتيازات، وكان بمثابة درع واقٍ يحمي من الخطر ويخلق منطقة أمان في بيئة قمعية.
وعلى العكس تماماً، خاطب الرئيس أحمد الشرع الشعب قائلاً: “أيها الشعب السوري إن حكاية الشام تستمر بكم، فيحكي التاريخ أن عصر أفولكم قد ولى، وأن زمان نهضتكم قد حان، وأن دمائكم لم تذهب سدى، وأن عذاباتكم لاقت آذانا مصغية، وأن هجرتكم قد انقطعت، وأن سجونكم قد حلّت، وأن مع العسر يسراً، وأن الصبر أورثكم النصر، وإن الله معكم ولن يترك أعمالكم، وأن العالم كله اليوم ينظر لكم بفخر لجميل ما صنعتم”، ليجدد الرئيس في كل مناسبة تأكيده على أن النصر كان فعل الشعب لا فعل السلطة فقط.
بهذا المعنى، فإن تجديد الهوية البصرية للدولة السورية يتجاوز دلالاته المؤسسية ليشكل خطوة ضرورية في مسار التعافي النفسي والاجتماعي، وتعطيل الزناد الشعوري المرتبط بعقود من التسلط. إنها ليست مجرد هوية رمزية، بل تشكيل روابط نفسية جديدة بين المواطن والدولة بوصفها كياناً جامعاً لا أداة تسلط، واستعادة الرموز لمعانيها النبيلة كوسائط تعبير عن الكرامة الجمعية، لا تمثيلات شخصية لحاكم أو نظام.
وكان ما سبق واضحاً في مطلع كلمة وزير الإعلام حمزة المصطفى عندما قال: “في هذه اللحظة التاريخية نقف اليوم جميعاً على عتبة سردية جديدة لسوريا الجديدة. سردية لم تبنَ على زخرفة الرموز ولا إبهار التصميم، بل على إعادة رسم العلاقة بين المجتمع والدولة، بين الشكل والبنية. هي لحظة استثنائية لأنها تمثل قطعاً جذرياً مع النظام البائد برموزه المحملة بمشاعر الخوف”.
ثم كان العرض الضوئي المبهر بالطائرات المسيرة، في ساحة الجندي المجهول وفي ساحة الأمويين ليستبدل الزناد الشعوري -لدى الأطفال واليافعين على وجه الخصوص- المحمّل بالخوف والتوتر، بزناد يطلق مشاعر الفخر والانتماء والطمأنينة.
من هنا يأتي دور الدولة ليس فقط في تغيير الهوية البصرية وتجديد الرموز، فمعركة الشعب لم تكن يوماً مع لون أو شعار أو شكل محدد، بل كانت معركة لاستعادة المعاني التي تم تفريغ الرموز منها. كانت معركة لحماية الرموز من التوظيف الشخصي وربطها بقيم عليا.
يتعافى السوريون يوماً بعد يوم من حمل نفسي ثقيل، وفي الهوية البصرية الجديدة فرصة تصالح مع الذاكرة، وتفكيك لزنادات القمع المتوارثة، وفرصة لإعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة، وتحرير الوجدان السوري من أسر الرموز المشحونة بالتجربة المؤلمة، وإعادة تشكيل الفضاء العام على نحوٍ يعيد الاعتبار لمفاهيم الفخر والطمأنينة والانتماء التي سُلبت قسراً.