سياسة
الخميس الماضي وأمام البرلمان الإثيوبي أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد عن اكتمال عملية بناء سد النهضة وعن تدشين السد في شهر سبتمبر القادم، بل ودعا مصر والسودان إلى حضور حفل الافتتاح! رد حكومتنا على هذا الإعلان جاء من خلال وزير الري الذي أعاد نفس الكلام المكرر -إلى الحد الذي جعله يفقد قيمته ومعناه- على مدار أكثر من ١٢ عام سمحت خلالها السلطة في بلدنا لإثيوبيا بالمراوغة والتلاعب وكسب الوقت وفرض الأمر الواقع، وذلك حيث أعرب وزير الري عن الرفض القاطع لاستمرار سياسة إثيوبيا في فرض إجراءات أحادية تتعلق بنهر النيل رغم عدم التوصل إلى اتفاق ملزم مع دولتي المصب ورغم التحفظات الجوهرية التي أعربت عنها كل من مصر والسودان، وأضاف أن مصر أبدت التزامًا للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة، بما يحقق المصالح المشتركة ويمنع الإضرار بدولتي المصب، وأن هذه الجهود قوبلت بانعدام الإرادة السياسية من الجانب الإثيوبي الذي يسعى لفرض الهيمنة المائية بدلًا من الشراكة والتعاون، وقال إنه أمر لن تسمح به مصر، ثم بعدها بثلاثة أيام ظهر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في قمة بريكس بالبرازيل وهو يمسك ضاحكًا بيد نظيره الإثيوبي.
بهذا الإعلان تكون إثيوبيا قد قطعت خطوة جديدة على طريق سيطرتها الكاملة على النيل الأزرق المسئول عن تزويدنا بحوالي ٨٥٪ من إجمالي إيرادات نهر النيل المتحصلة عند السد العالي، علمًا بأن المخطط الإثيوبي الكامل يحتوي على ٣ سدود كبرى إضافية على النيل الأزرق وحده هي سد كاردوبي وسد ميندايا وسد بيكوابو، وذلك في إطار الاستراتيجية التي عبر عنها في مناسبات عديدة على مدار تلك السنوات الكثير من المسئولين الكبار في إثيوبيا، والتي يكفي أن نسترجع منها كلمات وزير الخارجية عند إتمام بلاده المرحلة الأولى من ملء خزان سد النهضة، حيث قال “سابقًا كان النيل يتدفق، والآن أصبح في بحيرة، ومنها ستحصل إثيوبيا على تنميتها المنشودة. في الحقيقة النيل لنا”.
نهر النيل الذي احتفظت مصر بحقوقها التاريخية والمكتسبة فيه على مدار عمر الدولة المصرية وأيًا كان اسم أو صفة أو حتى جنس من حكمها، من أبنائها أو ممن مروا على احتلالها، يضيع الآن وتضع إثيوبيا عليه محبسًا سوف يستخدم عاجلًا أو آجلًا -إذا بقي الحال على ما هو عليه- في التحكم في تصريف المياه بحسب شروطها وشروط من خلفها، ولن تكتفي إثيوبيا باستخدام المخزون في بحيرة السد لانتاج الكهرباء وفقط، وقد أقر بذلك الاتفاق الكارثي الذي أبرمته مصر والسودان وإثيوبيا عام ٢٠١٥ والمسمى بالاتفاق الإطاري، والذي لم يعرض من يومها وحتى الآن على البرلمان للتصديق عليه، ويكفي لندرك حجم المصيبة في هذا الاتفاق أن نراجع المبدئين الثاني والثالث من المبادئ العشرة التي تمثل مع الديباجة جملة الاتفاقية التي وقعها رئيس الجمهورية مع رئيس وزراء إثيوبيا في حينه هيلا ماريام ديسالين والذي تنحى عن السلطة طواعية لتعزيز الديمقراطية في بلاده، والرئيس السوداني عمر البشير الذي تشبث بالسلطة ورفض مبدأ التداول السلمي لها، وفقًا للنموذج السائد في الجمهوريات العربية، إلى أن خلعه شعبه الذي يعاني اليوم وسيستمر في المعاناة لفترة طويلة من آثار الإستبداد وسوء الإدارة والتردي.
السلطة التي أظهرت فشلًا ليس له مثيل في كل التاريخ المصري في إدارة هذا الملف المتعلق به وجود الدولة المصرية ذاتها، هي نفسها التي غيبت الرأي العام عن المعرفة الصحيحة بالمشكلة، كما استبعدت كل الثقل الذي يمثله الشعب المصري من معادلة القوة الشاملة للدولة المصرية لفرض الحل العادل والمنصف، كما سمحت باستهزاء الجانب الإثيوبي بالحقوق المصرية رغم كل مقوماتنا وقوتنا وقدرتنا وأمام قضية تمس بقائنا، وكذلك فقد أصرت على صم آذانها عن الآراء الجادة التي تتناول تلك القضية من منظور الحلول الجذرية الشاملة، ولا تكتفي بالحديث في التفاصيل الفنية والتشغيلية متجاوزة الأسس التي يعتمد عليها الحق المصري في القانون الدولي، واتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية بين مصر وإثيوبيا وغيرها من دول المنابع، والمبادئ العامة المستقرة التي تحكم التعامل مع مياه الأنهار الدولية لغير الأغراض الملاحية.
إن المسئولية الوطنية والسياسية والأخلاقية أمام هذه القضية المصيرية في هذه اللحظة التاريخية تفرض على الجميع تقديم المصالح العليا للبلاد. لن نقول حذرنا ولم تسمعوا واقترحنا الحلول وأرسلناها مكتوبة وعرضناها علانية لما لم يرد علينا أحد، بل إني أسترجع الآن بأسى كل ما كتبته في هذا الموضوع كصحفي منذ عام ٢٠٠٩، وباستخدام كل ما استطعت من جهد وأدوات كنائب في البرلمان لـ ٥ سنوات، وكباحث سياسي درس هذه القضية وكتب وتحدث وطرح ما وجده مناسبًا للتعامل مع كل مرحلة من مراحل المشكلة، وكلما كانت الأمور تزداد سوءًا كنت أزداد إصرارًا على محاولة إيصال صوتي، وكل ذلك موثق ومنشور ويمكن العودة إليه لمن يريد، كما يمكن العودة لآراء غيري، ومنهم من هم أعلم مني وقد تعلمت منهم، ممن ناقشوا القضية من منظور كلي بحثًا عن الحل الحقيقي، لا هؤلاء الذين ساهموا بسذاجة أو بسوء نية في تفريغ القضية من جوهر مضمونها، وساعدوا على الغرق في دوامة التفاصيل الفرعية التي سفهت الأمر وعملت على تضليل الناس، ولا الذين اعتادوا تفويض السلطة على بياض، دون القيام بواجبهم الدستوري في المساءلة والمحاسبة، فقط يكفيهم ويُلزمهم، ويصفقوا ويبتهجوا لكلمات من قبيل “ما تسمعوش كلام حد غيري”، “اطمئنوا الأمور ماشية بشكل جيد، بشكل مطمئن، وأنا ماضيعتكمش قبل كده عشان أضيعكم تاني”.
ومع كل أخطاء السلطة وخطاياها في هذا الملف، وفي غيره، فإن حبنا لوطننا ووفاءنا لشعبنا يلزمنا بالاستمرار في البحث عن أبواب الخروج من مشكلات لم نساهم في صنعها لكن الواجب يفرض علينا مد يد العون والمساعدة في حلها.. عسى أن يكون هناك من يسمع ويجيب ويستجيب.





