مجتمع

صرخات لم تصل.. مأساة معتقلي سوريا في زمن نظام الأسد

يوليو 5, 2025

صرخات لم تصل.. مأساة معتقلي سوريا في زمن نظام الأسد

في سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ما زالت جراح سنوات القمع والاستبداد تنزف. ورغم مرور أكثر من ٧ أشهر على انهيار النظام المخلوع، ما زال مصير آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً مجهولاً، بينما تتكشف يوماً بعد يوم تفاصيل مروّعة عن ممارسات التعذيب والانتهاكات التي شهدتها السجون والأفرع الأمنية طيلة عقود من الحكم الأمني الدموي.

 

 

على مدار سنوات، شكّلت سجون النظام السابق كهوفاً للموت البطيء، حيث تعرض المعتقلون والمعتقلات لأبشع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، وانقطعت أخبار كثيرين عن ذويهم لسنوات، قبل أن تظهر شهادات موجعة توثق حجم الفظائع التي ارتُكبت خلف الجدران المغلقة.

 


“كنت أبكي كلما سمعت صوت طفل”.. حنان بردان تروي قصة اعتقالها أثناء بحثها عن زوجها المُغيّب

 

 

 

 

رحلة البحث التي انتهت بالاعتقال


بكلمات تخنقها العبرة، تتحدث حنان بردان، (36 عاماً) المنحدرة من مدينة طفس بريف محافظة درعا الغربي، جنوب سوريا، لـ “سطور” عن رحلة قاسية خاضتها في البحث عن زوجها الذي اعتقلته قوات نظام بشار الأسد. رحلة غصّت بالألم، بالخذلان، وبالوجع الذي ما يزال يرافقها حتى اليوم.

 

 

تقول حنان بحرقة والتي اعتقلت في 9 سبتمبر/ أيلول 2014: “كنت أبحث عنه بكل الطرق، لا يهم كم المال الذي كنت أدفعه، كنت مستعدة أن أبيع روحي لأصل إليه.. في رحلة البحث تلك تعرفت على محامية من محافظة السويداء، قالت لي إنها تعرف أحد العساكر القادرين على مساعدتي في الحصول على معلومة عن مصير زوجي المُغيّب. تعلّقت بذلك الخيط الرفيع من الأمل، ودفعت الكثير من المال مقابل أن أسمع عنه أي خبر، وكنت أصدّق كل ما يُقال لي، حتى إن كانت مجرد أكاذيب. كنت أعيش على فتات الأمل، وأتشبث بأي كلمة قد تقودني إليه”.

 

 

لكن الأقدار التي كانت تتلاعب بحنان لم تمهلها طويلاً؛ ففي أحد الأيام، وعندما ذهبت إلى فرع الأمن السياسي في درعا لمقابلة العسكري الذي وعدها بمعلومة عن زوجها مقابل مبلغ مالي، داهمت المكان سيارة مليئة بالعناصر الأمنية. هناك، وبين لحظة وأخرى، تحولت من باحثة عن زوجها إلى معتقلة؛ اعتقلوها مع ابنتها الرضيعة التي لم تكن تجاوزت الخمسة أشهر حينها، واعتقلوا كذلك عمتها (52 عاماً حينها) التي كانت ترافقها.

 

 

تتابع حنان: “لم أكن أصدق ما حدث، كنت أبحث عن زوجي فوجدت نفسي معتقلة مع طفلتي الصغيرة التي لا تعرف شيئاً عن هذا العالم القاسي. بعد أيام من الاعتقال، عرض عليّ أحد الضباط خيارين كلاهما موجع: إما أن يأخذوا طفلتي إلى الميتم، أو أن أسلمها لأحد أقاربي. شعرت حينها أن ابنتي إذا ذهبت إلى الميتم ستُنسى هناك إلى الأبد، ستضيع كما ضاع والدها، وستبقى مجهولة المصير حتى يوم القيامة”.

 

 

تمكنت حنان من إرسال طفلتها إلى أقاربها عن طريق قريب يعمل ضابطاً في صفوف قوات النظام السابق. “كنت أبكي كثيراً وأنا أراها تُنتزع من حضني، لكنني كنت أواسي نفسي بأن ذلك أرحم لها من أن تبقى في الميتم مجهولة الهوية، تعيش بلا اسم، بلا ملامح، بلا أهل”.

 

 

كان وقع الخبر قاسياً على حنان حين علمت بعد اعتقالها أن زوجها قضى تحت التعذيب في سجن صيدنايا بعد اعتقال دام 4 أشهر فقط. “كانوا يتنقلون به بين عدة أفرع، بينها فرع فلسطين سيئ الصيت. لم يصمد أمام شراسة التعذيب. لم يبقَ منه شيء.. لم يبقَ حتى جثمانه”.


وجع الأمهات وصوت الأطفال في الأفرع الأمنية

 

 

خلال فترة اعتقالها، نُقلت حنان بين عدة أفرع أمنية في درعا ودمشق. تتذكر بدقة تفاصيل ما عاشته داخل تلك الأقبية المظلمة، تتحدث عن نقلها إلى فرع الأمن السياسي في منطقة الفيحاء بدمشق، ثم إلى فرع الأمن العسكري. تصف مشاهد مأساوية ما زالت عالقة في ذاكرتها: “كنت أسمع أصوات أطفال داخل الأفرع الأمنية، صوت بكائهم كان يملأ المهاجع. لم يكن هناك من يجهل وجود أطفال معتقلين بيننا. التقيت معتقلة من محافظة إدلب كانت مع طفلها الذي لم يتجاوز السنة من عمره. كانوا يعرضون علينا أن يأخذوا أطفالنا إلى المياتم. بعض الأمهات رفضن، والبعض الآخر رضخ تحت قسوة التعذيب وقهر السجن، وبعضهن وافقن وهن يبكين ألماً وحرقة”.

 

 

تضيف: “كنت كلما سمعت صوت بكاء طفل، أتذكر طفلتي. كنت أبكي بحرقة. أبكي شوقاً إليها. أبكي على مصيرها الذي تركتها تواجهه بلا أب، وبلا أم، وبلا سند. كنت أبكي على زوجي الذي رحل تحت التعذيب، وأبكي على نفسي التي تحطمت داخل تلك الجدران”.


سنة من العذاب.. وخروج لم يُنهِ الألم

 

 

استمرت معاناة حنان في المعتقل نحو سنة كاملة، إلى أن خرجت في صفقة تبادل أسرى. لكنها خرجت بجسد منهك وآثار ما تزال تسكنها حتى اليوم. “خرجت إنسانة أخرى. عيوني لم تعد ترى كما كانت، فقد أمضيت سنة كاملة لا أرى الشمس. دخلت المعتقل بوزن 84 كغ، وخرجت بوزن 35 كغ. فقدت عصب ساقي من شدة الضرب، واضطررت لإجراء عملية تحرير عصب بعد خروجي”.

 

 

حنان اليوم تحمل كل تلك الندوب في قلبها وجسدها، ما زالت تستذكر أصوات الأطفال في المهاجع، وتشعر بوجع فقدان زوجها. لكن رغم كل شيء، ما زالت تحيا، تحكي، وتفتح جراحها كي لا تُنسى الحكاية، وكي تبقى الشهادة حيّة.


“خمس سنوات بين الموت والغياب: سعيد إسماعيل السوسي يروي تفاصيل اعتقاله وتعذيبه في سجون النظام السوري”

 

 

 

منذ اعتقاله في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 على جبهات القتال في مدينة الزبداني، دخل الشاب السوري سعيد إسماعيل السوسي (مواليد 1996) في غياهب سجون النظام السوري المخلوع، متنقلاً بين 7 أفرع أمنية وسجون مختلفة، غاب خلالها عن عائلته التي اعتقدت أنه توفي تحت التعذيب، حتى كسر الاتصال الأول جدار الموت في حزيران/ يونيو 2020. قصة سعيد إحدى آلاف القصص التي تختزنها معتقلات النظام المخلوع، لكنها تحمل تفاصيل مريرة عن وحشية التعذيب والانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون في سنوات الحرب السورية.

 

 

من الزبداني إلى دهاليز الأفرع الأمنية

 

 

اعتقل سعيد إسماعيل السوسي من قبل مليشيا حزب الله اللبنانية في الزبداني بريف دمشق، خلال مشاركته في القتال ضد قوات النظام السوري المخلوع وحلفائه. يقول سعيد في شهادته لـ “سطور”: “تم اقتيادي مباشرة إلى مقر لمليشيا حزب الله في الزبداني، وهناك بدأ أول فصول التعذيب، حيث تعرضت للضرب المبرح والتعليق من اليدين والقدمين، مع تعصيب العينين لساعات طويلة، كان كل هدفهم انتزاع اعترافات قسرية عن عملي العسكري ومعلومات عن رفاقي في الجبهات”.


بعد أيام، سلّم حزب الله سعيد إلى فرع المنطقة 227 التابع لشعبة المخابرات العسكرية في دمشق، لتبدأ بعدها رحلته القهرية بين الأفرع الأمنية؛ من فرع 227 إلى فرع 291 (شعبة المخابرات – الأمن العسكري)، ثم إلى فرع فلسطين 235 سيئ الصيت، ومنه إلى فرع 248 (فرع التحقيق) لما سُمّي آنذاك بـ “التسوية”، لكن التسوية رُفضت، فأُعيد مجدداً إلى فرع فلسطين، حيث بقي هناك نحو 4 سنوات متواصلة في ظروف إنسانية توصف بالجحيم.


“لم يكن هناك يوم يمر دون تعذيب. كنا نُعذّب صباحاً ومساء، بالكهرباء، بالشبح (تعليق المعتقل لفترات طويلة من معصميه حتى أطراف أصابعه تكاد تُقتلع)، بالضرب بالكابلات الحديدية، والحرمان من الطعام والماء لأيام متواصلة. كانوا يضغطون علينا للاعتراف بمحاولات اغتيال وتفجيرات لم نسمع بها حتى على نشرات الأخبار. الاعترافات تُكتب مسبقاً، ونحن نُجبر على التوقيع عليها تحت وطأة الألم”. يقول سعيد.

 

 

بعد 4 سنوات من الجحيم، نُقل سعيد إلى فرع 277 (فرع الأمانات) المعروف بمستودعات الـ 248 في دمشق، حيث قضى هناك نحو 3 أشهر قبل أن يُرحّل إلى سجن عدرا المركزي في يونيو/ حزيران 2020.

 

 

اللحظة التي بدّدت ظلال الموت

 

 

خلال سنوات اعتقاله، كان أهل سعيد يعتقدون أنه قضى تحت التعذيب، وهو ما كان شائعاً عن المعتقلين المختفين قسرياً. لكن في سجن عدرا، ساعده أحد عناصر الشرطة، وهو من أبناء الزبداني، على إجراء أول اتصال بأسرته. يروي سعيد تفاصيل تلك اللحظة بحسرة وغصة: “انتظرت دوري على حصالة الهاتف من الساعة الحادية عشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً. عندما جاء دوري، اتصلت برقمي العائلي المحفوظ في ذاكرتي. ردّ شقيقي مهند، وعندما أخبرته أنني سعيد لم يصدقني في البداية. لقد مرت 5 سنوات وكان طفلاً حين اعتُقلت. بدأ الشك يتبدد عندما ذكرت له أسماء والدتي ووالدي وأشقائي وأطعمة كنا نحبها معاً، حتى تأكد أنه أنا”.

 

سعيد طلب من شقيقه أن يوقظ والدته فوراً “مهند أيقظ أمي وأخبرها أن سعيد يتصل. في البداية لم تصدق، لكن حين سمعت صوتي عرفتني فوراً، فالأم لا يخطئ قلبها. ما إن نطقت بكلمة (يمّا) حتى أغمي عليها من شدة الصدمة”، بعد تلك المكالمة، تمكنت والدته من زيارته في سجن عدرا، في مشهد مليء بالدموع والمشاعر المندفعة. لكن الأمل الذي تجدد لم يدم طويلاً.

 

 

العودة إلى الجحيم

 

في تموز/ يوليو 2021، تم رفض تسوية سعيد مجدداً، وأُحيل من محكمة “مكافحة الإرهاب” إلى محكمة ميدانية، ثم أُعيد إلى فرع فلسطين، حيث انقطعت كل سبل التواصل مع أسرته من جديد.

 

 

“أن يعود بك الزمن إلى الموت بعد أن شممت رائحة الحياة من جديد، هذا الشعور لا يوصف. كنت أعيش على أمل أن يخرجني أهلي من السجن، لكن بمجرد إعادتي إلى فرع فلسطين، أُغلقت الأبواب مرة أخرى وعدت إلى الغياب”.

 

 

استمر احتجازه في فرع فلسطين حتى تحرير دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. في ذلك اليوم التاريخي، تمكن سعيد من الخروج بعد أن سيطر الثوار على الفرع.

 

 

“خرجت من الفرع ولم أصدق أنني على قيد الحياة. أوقفت أحد المدنيين في الشارع وطلبت منه أن يتصل بأهلي. كمن أحفظ رقم الهاتف عن ظهر قلب. اتصلت بهم وكانوا نازحين في منطقة جرمانا، ركضت إليهم كأنني ولدت من جديد.. كان لقاءً يفوق وصف الكلمات”.



شهادات لا تموت

 

تفاصيل ما رواه سعيد إسماعيل ليست استثناءً في سجل الانتهاكات التي مارستها أجهزة النظام السوري المخلوع بحق المعتقلين، لكنها شهادة حية عن آلة تعذيب ممنهجة لم تتوقف طوال سنوات الحرب.

 

“كانوا يبتكرون طرق تعذيب جديدة لا تخطر على بال بشر. كنا نُجلد بأسلاك كهربائية مخصصة لتوصيل الطاقة، نُعلق كالذبائح لساعات حتى يتوقف الدم عن الوصول إلى أطرافنا. بعض رفاقي في الزنزانة لفظوا أنفاسهم أمامي تحت التعذيب، وكانوا يجبروننا على التوقيع على أوراق لا نعرف محتواها”.

 

 

اليوم، يتحدث سعيد بحرقة عن آلاف المعتقلين الذين لم يجدوا الفرصة لالتقاط أنفاسهم أو سماع صوت أمهاتهم كما حدث معه. ما زالت قضية المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا جرحاً نازفاً يبحث عن عدالة غائبة في مشهد سوري معقد بقيت فصوله مفتوحة.


حنان بردان وسعيد إسماعيل السوسي، شخصيتان من بين آلاف الناجين الذين كسروا جدار الصمت بعد نجاتهم من براثن تلك المعتقلات. قصتان تختزلان وجع البحث عن الأحبة، وسنوات من العذاب تحت التعذيب، والفقد، والتغييب القسري.

 

 

ففي الوقت الذي كانت حنان تبحث عن زوجها المُغيّب في سجون النظام، انتهى بها المطاف معتقلة مع طفلتها الرضيعة، لتجد نفسها في مواجهة آلة قمع لا تعرف الرحمة. أما سعيد فتنقّل لسنوات بين 7 أفرع أمنية وسجون متعددة، عاش خلالها بين الحياة والموت حتى لحظة تحريره بعد سقوط دمشق.

 


وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، قد أعلنت يوم الأربعاء الفائت، أنه في سياق الجهود المستمرة لكشف مصير أبناء وبنات المعتقلين والمغيبين قسراً زمن النظام البائد، وبالتنسيق مع وزارة الداخلية، تم توقيف عدد من الأشخاص المعنيين بملف الأطفال الذين فقدوا أثناء وجودهم في دور الرعاية التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق.

 

 

الوزارة أوضحت أن التوقيف جاء على خلفية الاشتباه بتورط هؤلاء الأشخاص في تجاوزات وانتهاكات محتملة تتعلق بمصير هؤلاء الأطفال، مشيرة إلى أن التحقيقات تجري وفق الأصول القانونية وبما يضمن أعلى معايير العدالة.

 

 

ودعت الوزارة جميع الجهات الرسمية والمدنية وكل من يمتلك معلومات ذات صلة إلى التعاون مع لجنة التحقيق المشكلة بموجب القرار الوزاري رقم /1806/ لعام 2025، بهدف كشف الحقيقة وضمان حقوق الأطفال المعنيين، وأكدت الوزارة حينها التزامها الكامل بمواصلة العمل على حماية حقوق أبناء وبنات المعتقلين والمعتقلات، ومنع تكرار مثل هذه الانتهاكات مستقبلاً.


قضية المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا ما تزال جرحاً مفتوحاً في ذاكرة السوريين، رغم سقوط النظام الذي ارتكب تلك الانتهاكات وشهادات الناجين والناجيات من المعتقلات ستبقى شاهداً حياً على سنوات من التعذيب الممنهج والقهر الإنساني. وبينما تسعى الجهات الرسمية في سوريا الجديدة إلى فتح هذا الملف وكشف الحقائق حول مصير آلاف الضحايا، يبقى الأمل معلقاً بأن ينال الناجون حقوقهم، وأن تنتهي معاناة العائلات التي ما زالت تنتظر خبراً عن أحبائها في غياهب السجون. فالعدالة مطلوبة، والحقائق تنتظر أن تخرج إلى العلن.

شارك