آراء
لماذا لا تبرم إسرائيل صفقة شاملة ثم تتراجع عنها بعد استرداد الأسرى؟ سؤال طرحه صديقي المهندس رامي، الذي فقد بيته ووالديه وأشقاءه شهداء في هذا العدوان المستمر. وهو تساؤل يتردد في كثير من المجالس في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. يتساءل كثيرون: ما الذي يمنع إسرائيل من قبول صفقة شاملة – كما تطالب بها حماس – ثم التراجع عنها بعد استرداد الأسرى واستئناف القتال؟ أليس ذلك خياراً متاحاً لدولة اعتادت استخدام القوة والمراوغة السياسية؟ ومن هنا نؤكد على: لا توجد قوة تلزم إسرائيل بالالتزام بأي صفقة، خصوصاً وهي في ذروة علوها العسكري والسياسي والدبلوماسي. إن الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع الصفقات ليست مبنية على الرغبة في الوصول إلى تسوية عادلة أو شاملة، بل تنبع من عقيدة أمنية تقوم على كسب الوقت، وتفكيك الخصوم، ومنع تشكّل واقع سياسي مستقر يفرض عليها التزامات واضحة. ولهذا تتهرب إسرائيل دائماً من الاتفاقات الملزمة أو الشاملة، وتفضل إما الصفقات الجزئية أو إدارة التفاوض بطريقة تُبقي المبادرة في يدها.
إن تحليل المشهد بعمق يكشف أن تردد إسرائيل لا يعود إلى عدم قدرتها على تنفيذ خديعة، بل إلى رفضها مبدئياً لفكرة “الإذعان” لأي طرف فلسطيني. فهي لا تتصرف حالياً كقوة محاصرة تبحث عن مخرج، بل كقوة تدير الصراع كما تشاء. فالعقيدة الأمنية لديها قائمة على: “التفوق لا التوازن”، فهي لا تقبل مبدأ “الصفقة المتوازنة” لأنها ترى فيه تنازلاً ضمنياً يمسّ صورتها وهيبتها. كما تريد دوماً أن تُظهر أن ما تمنحه هو منّة سيادية، لا نتيجة مساومة، ضمن قرار أحادي ينبع من مركز قوة، ربما قد يصل لدرجة انسحاب أحادي من غزة، كخيار محسوب ضمن استراتيجية “إدارة المعركة” لا حسمها. تماماً كما فعلت في جنوب لبنان سنة 2000 أو في غزة سنة 2005، فإن الانسحاب الأحادي ليس تنازلاً بل آلية لتفادي صفقة شاملة تُفضي إلى وقف نار حقيقي. فهذه ليست حرباً لأجل تحرير أسرى فقط، بل جزء من مشروع أكبر لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني، خصوصاً في غزة. ومن هذا المنطلق، فإن رفضها القبول بصفقة شاملة مشروطة، ليس فقط لخشيتها من فقدان المصداقية إذا نكثت بها، بل لأنها لا تريد أن يُفرض عليها مسار تفاوضي يُظهرها كمنهزمة أو خاضعة للابتزاز. فقد تبنت نهجاً ثابتاً في العقيدة الصهيونية منذ بن غوريون هو “الفعل لا رد الفعل”، وقد اعتادت على أن تملي الوقائع على الأرض، لا أن تفاوض على ما يُفرض عليها.
في ضوء ما سبق، يمكن رسم سيناريو واضح يعكس ما تريده إسرائيل في هذه اللحظة، وهو القوة والتحكم الكامل: حيث دأبت منذ بداياتها على استراتيجية واحدة: “إدارة الصراع لا إنهاءه”. فهي لا تسعى إلى القضاء التام على حماس، بل لإضعافها بما يكفي لمنعها من فرض شروط المنتصر، ولإرهاق البيئة الشعبية التي تحتضنها. لذلك نراها تفاوض بشكل تكتيكي لا استراتيجي، عبر الوسطاء (مصر، قطر، أمريكا)، لتفريغ العملية التفاوضية من مضمونها الحقيقي، عبر تجزئة المطالب وتغييب أي وقف دائم لإطلاق النار. مع السعي إلى استرداد الأسرى بلا “ثمن سياسي” بصفقة محدودة أو بعملية عسكرية، فهي تراهن على إيصال حماس لأدنى مستوى من القدرة والتأثير. وتروّج لذلك داخلياً كـ”نصر سيادي”، دون أن تقدم أي تنازل جوهري حول إدارة غزة أو الاعتراف بحماس كطرف سياسي.
إدارة الصراع ما بعد الحرب هو الشغل الشاغل الذي يُطبخ على نار المقتلة. فإسرائيل لا تسعى لحل الصراع، بل لإدارته بشكل دائم يخدم مصالحها. تُطيل أمد الحرب عندما يخدمها ذلك. تُجزّئ الحلول، تُؤجل، تُماطل، لكيلا تُضطر لحل شامل يعيد تعريف المعادلات القائمة (كقضية غزة، أو مصير الضفة والسلطة، أو مستقبل حماس)، بحيث يشمل هندسة جديدة لغزة. لا تريد عودة حماس للحكم، ولا تقبل سيطرة السلطة الفلسطينية بشكل كامل، بل تعمل على: تفكيك البيئة السياسية في غزة، وفرض أطراف محلية أو إقليمية لإدارة الشؤون المدنية، بهدف منع أي توحيد فلسطيني يعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني.
ما يمنع إسرائيل من القبول بصفقة شاملة ثم التراجع عنها ليس الخوف من العواقب، بل الاقتناع العميق بأنها تمثّل انتصاراً سياسياً لحماس، ومن منطق “الردع المعنوي” تخشى من تأثير “الرمزية” في الشرق الأوسط. فأي صفقة تُظهر حماس كمنتصرة (ولو بالمعنى الرمزي)، ستعتبره هزيمة استراتيجية بعيدة المدى. لذا تحرص على أن لا تُختم الحرب بصفقة شاملة متكافئة. فإسرائيل لا تريد فقط استعادة أسراها، بل أن تفعل ذلك بشروطها، وفي توقيتها، وبطريقة تُكرّس هيمنتها لا مساومتها. لذا تُفضل إدارة حرب طويلة ومفتوحة، تُنهك الخصم وتُرغم الجميع على القبول بواقع جديد ترسمه هي، لا يُفرض عليها. لأن “القدرة على الحسم” ليست الهدف النهائي، بل “القدرة على السيطرة دون تنازل” هي الهدف.
وبهذا التكتيك تحقق إسرائيل أهدافاً مزدوجة: تخفيف الضغط الدولي عليها، مع إبقاء الصراع في حالة سيولة قابلة لإعادة التشغيل وفق إيقاع المصالح الإسرائيلية. والرسالة التي تبعثها من خلال هذا النمط هي أنها لا تعترف بشرعية الخصم السياسي، ولا ترى فيه شريكاً في معادلة الاستقرار، بل حالة أمنية يجب التحكّم بها لا التفاوض معها.