Blog

البوصلة بين التحليل والتضليل!

يوليو 2, 2025

البوصلة بين التحليل والتضليل!

في زمن انفجار المعلومات وتسارع الأحداث، بات التحليل سلاحاً ذا حدين، يمكنه أن يضيء العقول أو يضلها، أن يكون جسراً للوعي أو مطيةً للهوى. لم يعد كل ما يُقال في الفضائيات أو يُكتب في الصحف والمواقع أو يُغرّد في الفضاءات الرقمية تحليلاً نابعاً من وعي واستقراء وتجرد، بل أصبح بعضها تجلياتٍ شخصية لما يريده المحلل أن يكون، لا لما هو كائن بالفعل.

التحليل الموضوعي لا يُبنى على رغبة النفس ولا على أمنيات الهوى، بل هو نتيجة عقلٍ راجحٍ يستقرئ المعطيات بميزان العدل، ويزن الأقوال والأحداث بميزان التجرد عن الانتماء والميل والمصلحة. ولكن ما أكثر التحليلات التي تصدر اليوم متدثرة بثوب العقل وهي لا تتجاوز حدود المزاج! هذا محلل يدفعه انتماؤه السياسي، وآخر يغريه طموحه الشخصي، وثالث يُلهمه هواه الدفين، ورابع قبض الثمن فصار بوقاً مدفوع الأجر، وكلهم يتحدثون باسم الحقيقة، والحقيقة منهم براء.

وقديمًا كان من مقاصد الشريعة السعي في طلب العدل والإنصاف، ومن أبواب سد الذرائع عدم الخوض فيما لا علم للمرء به. وتحليل الأحداث دون معرفة مفاتيحها وسياقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والاقتصادية أشبه بمن يقرأ نصف الجملة ويحكم على الرواية كلها. ولعل من يتتبع سيرة الخلفاء الراشدين يجد أن التحليل كان عندهم ضربًا من الفقه، لا اجتهادًا منزوياً عن العلم. فقد جاء في الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يقطع في الأمور إلا بعد أن يستشير ويستقرئ ويتبيّن، وكان يقول: “اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه”.

هذا الدعاء كان جوهر التحليل الموضوعي في عهد الراشدين، أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبحت كل قناة إعلامية ومؤسسة فكرية تسوّق من تحليلات ما يناسب أهواءها وتوجهاتها، وليس ما يناسب الواقع أو الحقيقة.


في هذا الفضاء الملبد بالغث والسمين، يضيع المتلقي العادي بين زخرف القول وغواية الصوت العالي، ويصعب عليه التمييز بين التحليل النزيه وبين التحليل المسيس أو المؤدلج. فما العمل إذن؟ وما السبيل إلى النجاة من هذه المتاهة؟

إن أول ما يحتاجه القارئ هو بناء مناعة فكرية، تقوم على مبدأ التثبّت، كما جاء في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا”. فلا يُسلّم المتلقي لكل رأيٍ يُطرح، بل يعرضه على القواعد العقلية والشرعية، ويبحث في خلفية المتحدث، وتاريخه، ومصدره، ومدى استقلاله أو تبعيته. إن بناء العقل النقدي ضرورة، لا ترف.

كما أن من الواجب أن نعترف أن بعض التحليلات التي يُروّج لها تأتي ضمن سياق استهداف وعي الأمة، عبر تفكيك القضايا، وإشغال الناس بالسطح دون الجوهر، وتصوير المعارك على غير حقيقتها. وهذا يقتضي منا كأمة أن يكون لدينا مركز تحليل نابع من وجداننا وتاريخنا وقيمنا، مركز لا يخضع للممول، ولا يخاف من التغريد خارج السرب، ويُخرج للناس تحليلاً يليق بأمةٍ قال الله عنها: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”.

لقد عرفت أمتنا الإسلامية نماذج من التحليل الواعي حين كان العلماء والمفكرون يرصدون التحولات بموازين الشرع والعقل والتجربة. ففي زمن الفتن، كان الحسن البصري رحمه الله يقول: “لا يعرف الفتنة إلا عالم، فإذا أقبلت عرفها، وإذا أدبرت تحدث الناس عنها”. وهكذا يكون التحليل فهماً لما سيأتي، لا تعليقاً لما مضى.


أمام هذا كله، لا بد من إشعال شموع الوعي في قلوب الأفراد، وبناء مؤسسات فكرية مستقلة، وتحصين الوعي الجمعي من التسرع والعاطفة، وتغليب البصيرة على البصر. فلا ننجرف مع كل صائح، ولا نتبع كل ناعق، بل نكون على بينة، نطلب الحق، ونتحرّى الصدق، ونسأل الله أن لا يجعلنا ممن “اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم”.

وفي الختام، إننا في زمنٍ كثُر فيه المتحدثون وقلّ فيه المتبصرون، وتعددت فيه التحليلات وندر فيه المحللون، وتوسعت فيه المنابر وضاقت فيه الموضوعية، فلا أقل من أن نكون على وعي بأن كل ما يُقال ليس بحقيقة، وكل من يُحلل ليس بثقة، وكل من يصرخ لا يعني أنه صادق، وكل من يصمت لا يعني أنه عاجز. فميزاننا هو ما يقرّه الشرع، ويثبته التاريخ، ويقرّه العقل، ويقود إلى المصلحة العامة للأمة، فهناك فقط يكون التحليل منارة، لا دعاية.

شارك

مقالات ذات صلة