سياسة
كلُّ امتثالٍ لخطٍّ وهميٍّ رسموه تنازل لا يليق، وكسره كمبدأ واجب مقصود لذاته “حيثما وجدت سلطة؛ فثمّة مقاومة”، ومن ثمّ التحريض عليه واجبٌ مثله “ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب”؛ إلى أن تختفي الخطوط، حقيقيّها ووهميّها، وربّما يختفي راسموها -تبعًا- من وجودنا المثقَل. استثناء وحيدٌ، ربّما، عند فقد الطاقة اللازمة للمقاومة، لتجنّب السقوط في المواجهة؛ وحتى هذا لم يُحسم بعدُ نظريًّا.
كلّما فُتح الباب؛ خرجتُ. كُلّما أفقتُ في المشفى بعد غيبوبة أو انهيار صحّيّ بسبب الإضراب، بدأتُ إضرابًا جديدًا عن الطعام (وأحيانًأ الطعام والشراب والعلاج ) كلّما تُركت مساحة اقتحمتها، لا أعودُ إلا بهم، ولا أدخل زنزانتي إلا بعد إحاطة وحصار “تشريفة للشخصيّات الهامة”، كنتُ أقولُ لأيّ مارٍّ متعجّب، لأطرد عنه “الخضّة”، وأمعِنَ في الإهانة ، إلى أن بدأوا هم يقولون للسائلين: ” تشريفة شخصيّات هامّة”، بسخريةٍ أو بمرارة .
ليمنعوا تواصلي مع الرفاق والزملاء، كانت كلّ حركة خارج الزنزانة يلزمها تشكيلٌ أو اثنان من قوّات مكافحة الشغب وعدد من الضبّاط، قلتُ لهم: “سأستغلّ أي مساحة لأصل لزنازين الزملاء أو أُوصِلَ لهم ما يُمنع” وفعلتُ في كلّ مرّة، إلا ممنوعًا بالقوّة.
أبلغونا -بحسم- تعليمات أمن الدولة: “لا توصلوا شيئًا إلى صفوان ثابت أو صلاح سلطان أو ياسر صلاح”؛ قائمةُ ممنوعاتهم أقسى من تلك التي لنا؛ فأوصلت-والرفاق- لهم ما استطعت خطفًا وتحايلاً أو حتى صِدامًا مباشرًا. وكان العقاب بمنع التواصل مطلقًا بيننا، لا معهم فحسب ، لكن بين الكلّ والكلّ (عقاب جماعي طال حتى غير الأطراف المشاركة في التمرّد)، مُنعت أشياء لم يتصوّر أيّنا أن تمنع ولو في المعتقل (طعام وشراب وملابس وغطاء وأدوية).
وظلّت جهود المنع تتوحّش كلّ يوم، لوقف خروقاتي حدودَهم التي رسموها، وفي كلّ أسبوع تقريبًا تجري مناقشة/مساومة على الالتزام بهذه الحدود، كانت ترهقهم بشكلٍ ما، وتكلّفهم أفرادا وضبّاطا وإخطارات وطواريء بلا جدوى، يمكن تجنّبها فقط بأن أسمع الكلام، والأهم: كانت تُشعِر بعضهم -ممن بقي لديهم شيء من مشاعر- بالإهانة إذ كيف يُقبل أن يتحرّك كلّ هؤلاء يوميًّا ليُدخلوني دورة المياة. مثلاً؟
قلت للعميد الذي أصبح مسئولاً عن تحرّكاتي ذات مرّة “ما يصحّش تبقى رئيس مباحث المنطقة ويجيبوك من مكتبك كلّ يوم عشان تدخّلني الحمّام” فردّ عليّ- كاد يبكي- “ده شغلي، وأنا هاجي أدخّلك الحمّام كلّ يوم”، رأيتُ ضابِطًا صغيرًا يُلقي بالمفاتيح على المكتب لضابط الأمن الوطني رفضًا للدور “المهين”، ثم ذاتُه بعدها يقوم بمهمة حارس دورة المياه لأشهر بعدما سبّ الأخير أديان أهله على ملأ.
مُنعتُ من التريّض، ومن الزيارة، وغيرهما، فقط لأتوقّف عن المطالبة -إلى آخر الخط، مهما يكن- بهذا الحقّ أو ذاك؛ لم يكن عِنادًا من ذلك الذي يورث الكفر، ولا حتى قوّة الواثق من انتصاره، أو الباحث عن انتصارٍ أصلاً؛ إنّما دفاعات خائفٍ من نفسه، ومتشكّك في قدرتها على الصمود أو قابليّتها للتأقلم، ومدركٍ لركون النفس للراحة ونفورها من العراكات والعواقب.
ولأنّ التجربة تقول ما لا يقوله الأطبّاءُ أحيانًا، خاصّةً في حالةٍ كتلك، أقول واثِقًا، وقد شُفتُ معتقلين (مناضلين كبار وواعين بحقيقة السجن وأثره) يأتمرون بأمر السجّان كأنّه يدُ القدر، أو يسيرون في المسارات الافتراضيّة، يضغطون الأزرار ويتجاوزون الأبواب الفاصلة، وصولاً للزنزانة التي يغلقونها على أنفسهم . ولا زلتُ غير قادرٍ على تصوّر ما الذي يعتملُ في دواخل إنسان -حرّ بالفطرة- وواعٍ في مساره بحقيقة الصراع وأغراض السلطة من أدوات قمعها للأذهان والأجساد، يجعله رغم ذلك يكون سجّان نفسه؟
أرعبني ذلك المشهد/المصير، رغم كلّ التعاطف مع الذين وصلوا إليه وتجريم السلطة وحدها في هذه الحال، التي تسعى لها أصلاً، ووضعتُه في ذهني طويلاً لأذكّرني أنّ “تأليَة” هؤلاء البشر المستهدفين، وتحريكهم ذاتيًّا بمجرّد ترسيخ شعور دائم لديهم بأنّهم مراقبون وأنّ لكلِّ خرقٍ عقابٌ، قد يُفقِدَ ما لديكَ الآن (وماذا عمّا أفقدتُه قسرًا؟) ولا مناص من السير في المسار المرسوم لهم سلفًا من السلطة المتحكّمة، هذاهو الغرَض، لا لأنّه يوفّر الوقت والجهد والسجّانين فقط، إنّما لأنّ اعتياد الرضوخ هزيمة تُحقِّقُ ما لا تحقِّقه المواجهة، تلك التي تحتمل الفوز والهزيمة، أما هذه فلا مناص من السقوطِ بعدها، مآلاً واحدًا مؤسِفًا.
وما ينطبقُ على السجن ذي الجدران الأربع والمحاط بالسجّانين من كلّ اتّجاه، ينطبقُ على سجنِنا الهائل ولعنتنا الخالدة، ذلك الوطنُ المسكين: مصر، وكلّ مصرٍ يسجن ناسَه لصالح القصر ومن فيه.