مجتمع

الفضاء الرقمي بديلاً للبُنى التقليدية في المشهد السوري

يونيو 27, 2025

الفضاء الرقمي بديلاً للبُنى التقليدية في المشهد السوري

ربما في عالمٍ مثالي ينعمُ بحالةٍ صحية من الحياة السياسية يمكن للمواطن أن يطمئنّ، ويسند ظهره إلى آليات عديدة لا تترك المجال للسلطة السياسية بالتغوّل أو الانفراد في القرار في معزلٍ عن الآخر بدءاً من الدستور، مروراً بالقضاء، وانتهاء بالأحزاب المعارِضة والإعلام الحر، وما تتيحه هذه المنظومات من توازنٍ في الفضاء العام للبلاد.

 

 

 

أشكال الغياب وسدّ الثغرة

 

 لكن، في السياق السوري شديد التعقيد، حيث ما تزال الهياكل السياسية والمؤسساتية هشّةً وقيد البناء والتطوير، تغيبُ هذه البُنى التقليدية، أو تظلّ شكليّة دون تمكينٍ فعلي. لذلك نرى أعناق السوريين تشرئب إثر كلّ قرار من أصغر دائرة حتى أكبر التمثيلات في السلطة: رئاسة الجمهورية. خالقين حالة مشحونة من الأخذ والردّ في الفضاء الرقمي. حيث يمارسون نوعاً من المراقبة الشعبية البديلة، محاولين سدّ الفجوة التي خلّفها غياب أدوات المعارضة وتقويم السلطة التقليدية.

 

 

 في واقعٍ مماثل، ما زالت تتشكل فيه بالتدريج ملامح الدولة، يستعيضُ الفضاء العام عن الآليات الغائبة بطرح المشاكل والاعتراض على القرارات والشخصيات المعيَّنة عبر منصات التواصل. هذا الحضور في المجال الرقميّ للأصوات المعترضة يتضخّم حتى يحتلّ كامل المساحات الفارغة لأشكال المعارضة الحقّة والمشروعة والصحية.

 

 

تداخل القوى وشدة الروابط

 

 من مظاهر الطمأنينة في حالتنا السورية أن السلطة في بنيتها الراهنة لم تتشكّل في معزلٍ عن المجتمع، بل وُلدت من داخله، وتحملُ جزءاً من ذاكرته وهمومه. هذا الانغراس المباشر يمنح العلاقة بين الشعب وأصحاب القرار بُعداً عميقاً، وعهداً ضمنيّاً بعدم الانفصال عن الحاضنة. كما يُعزز من فرص التفاعل مع الرأي العام المبنيّ على الثقة، لا بوصفه تهديداً بل مؤشّراً على نبض الشارع. ومع ذلك، فإن استمرار هذه الروابط يتطلّب ما هو أكثر من الاستماع. أي بناء آلياتٍ للاستجابة والمساءلة، حتى لا يتحوّل الحضور الرقمي إلى مجرّد “تنفيس”.

 

 

 

عيوب الفضاء الرقمي وضرورة عدم الاكتفاء به.

 

  رغم ما يشهده الفضاء الرقمي من حيوية في السياق السوري، وما يمنحه من مساحة حرة للتعبير عن الرأي، ومناقشة القرارات، ومساءلة الشخصيات العامة، يظلّ أداةً محدودةً وغير مستقرة في بناء وعيٍ سياسيّ مستدام.

 

  ذلك أن التمثيل الرقمي بطبيعته فردي ومفتّت، يستند إلى رؤية شخصية، ويدور في دوائر الأفراد الضيقة. كما أن التفاعل الرقمي، بحكم سرعته وطبيعته، يقوم في الغالب على ردود الفعل العاطفية أو المواقف اللحظية، لا على تحليل بطيء وعقلاني يُراكم الفهم تدريجياً. وهذا يفضي إلى حالة من التشظي في الخطاب العام، حيث يصعب التمييز بين ما هو شخصي وما هو واقعي. وبين النقد الذي يُقوّم الأداء، والصوت الذي يسعى فقط للمعارضة أو التشكيك دون أساس واضح.

 

 

ومما يزيد الأمر تعقيداً، أن هذه المساحات الرقمية قد تتعرض أحياناً إلى الاستقطاب والانزلاق نحو اصطفافات مدفوعة، تُحرّكها الانتماءات أو الهويات الفرعية، ما يحوّل النقاش من تداول الأفكار إلى صراع الهويات. وفي مثل هذا المناخ، يصبح من الصعب الوصول إلى موقف موحّد أو رؤية جامعة يمكن أن تُقدّم نفسها بديلاً سياسياً أو قوة ضغط منظمة. لذا، تظلّ الاستجابة من طرف السلطة -أحياناً- أقرب إلى محاولة الاسترضاء الشعبي، الذي يقع في فخّ فعل كل ما يطلبه الجمهور.

 

 

 وهذا يجعل من الرقابة الرقمية، رغم ضرورتها، وسيلةً مؤقتة لا يمكن لها أن تكون بديلاً دائماً عن السياسة المنظمة والمؤسسات الشرعية. فالمعارضة الرشيدة، والمساءلة الحقيقية، والتغيير البنّاء، لا تتم عبر منشورات أو تعليقات، بل عبر بُنى سياسية راسخة: أحزاب، نقابات، مجالس منتخبة، ومجتمع مدني منظّم.

 

 

 من هنا، تصبح الحاجة إلى تجاوز الفضاء الرقمي باتجاه التنظيم السياسي الحقيقي، ضرورة لا ترفاً. وذلك ليس بإنكار أهمية هذا الفضاء، بل عبر إدماجه في مشروع وطني أوسع، يسعى إلى تحويل الطاقة الرقمية المنتشرة إلى وعي سياسي مركّز، ومطالب مدنية منظمة، قابلة للترجمة إلى إصلاحات حقيقية داخل المؤسسات القائمة، أو من خلال الدفع نحو بنائها إن كانت غائبة.

 

 

  يُفترض أن يكون مجلس الشعب هو الجهة التشريعية الرقابية التي تعبّر عن أصوات الناس، وتقوم بوظيفة الوصل بين الدولة والمجتمع. لكن في الواقع، وفي ظلّ غياب أشكال منظّمة من التيارات الفكرية، ووجود فراغ حزبي حقيقي، قد لا يكون هذا المجلس أكثر من توسيع للدوائر الفردية، بل الأخطر من ذلك، أن يتحوّل إلى ساحة محاصصة مناطقية أو طائفية أو ولائية، خصوصاً في ظل التوترات التي نشهدها، مما يجعل تمثيله منحازاً لانتماءات ضيّقة بدلاً من أفكارٍ جامعة.

 

 

ضرورة المسارعة في خلق البيئة السياسية.

 

لا يمكن حل هذه المشكلة إلا في بذر بذور الوعي السياسي القائم على النظم التقليدية، لكن هذه المهمة ليست إجرائية فقط، بل بنيوية وتراكمية، لأنها تتطلب بناء ثقافة سياسية تدرّب الناس على الحوار، وعلى التحزّب على أساس الأفكار، لا الولاءات، وتأسيس حياة سياسية حقيقية، قاعدتها تكوين أحزاب وطنية قائمة على البرامج لا الانتماءات، وعلى الأفكار لا الهويات، كما نصّ الإعلان الدستوري في مادته الرابعة عشرة، مؤكداً على حق تشكيل الأحزاب على أسس وطنية. هذا النوع من البناء لا يتم بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى بيئة سياسية هادئة، وعدالة انتقالية، ومساحة مفتوحة للنقاش والتنظيم.

  ما لم تبدأ النخب والجهات الرسمية والمجتمع المدني ببناء هذه البيئة تدريجياً، فإن سوريا ستظلّ تدور في فراغ سياسي، تملؤه صراعات فرعية هامشية. والمشكلة ليست فقط في تأخّر ولادة الأحزاب، بل في تأخّر تشكّل الروح المؤسساتية نفسها، التي تتجاوز الانفعال الآني نحو بناء فكريّ مستدام.

 

لقد خلق المواطن السوري، بما يمتلك من وعي وحاجة إلى التعبير، فضاءً عاماً رقمياً يقوم مقام المعارضة، وينتقد ويُصوّب ويطالب. هذه الظاهرة -رغم عيوبها- مهمة ومبشّرة في مرحلة انتقالية حرجة. لكنها ليست حلاً دائماً، ولا ضمانة لبناء المستقبل.

 

كما أن مجلس الشعب، قد يعيد إنتاج الانتماءات بدلاً من خلق بنية تشريعية وطنية. والحل، يكمن في بذر الوعي السياسي المؤسساتي، وتأسيس الأحزاب الوطنية القادرة على امتصاص الانتماءات الضيقة، فالتحوّل الحقيقي يبدأ من بناء السياسة، لا فقط من مراقبتها.

شارك