مجتمع
لم تكن الهوية السورية يوماً معافاة بالكامل على مدار عقود من الزمن، فمنذ سيطر نظام الأسد الأب على الحكم بانقلاب عسكري عام 1971، بدأت ملامح الهوية الوطنية بالتآكل التدريجي، لا بفعل غياب التنوع العرقي أو الديني في سوريا، بل بسبب قمعه واستثماره في الطائفية والمناطقية كأدوات لضمان سيطرته على مفاصل البلاد لعقود، وتمّت هندسة الانتماء الوطني ليكون مرادفاً للولاء للنظام، لا للوطن، وتحولت الدولة إلى أداة لتغذية الشك بين مكونات المجتمع السوري، وزرع الحذر بدل الثقة، والانتماء للقرية أو الطائفة بدل الأمة.
ثم جاء الأسد الابن “بشار الأسد” ليُكمل المشروع نفسه بأساليب أكثر حداثة وأشد فتكاً منذ توليه حكم سوريا عام 2000 بعد وفاة والده، وحين تفجّرت الثورة عام 2011، لم تكن الهوية السورية تخرج من جسد سليم، بل من جسد مُثقل بالتصدعات، ومع امتداد الحرب، وتدخل الحلفاء، وتفكك الجغرافيا، لم تعد سوريا وطناً، بل جزراً معزولة من الانتماءات المشروخة.
في مخيمات النزوح، يظهر هذا التمزق بأوضح صوره. لم تعد الخيمة مجرد مأوى، بل فضاءً يعيد تشكيل الانتماء على أساس ضيق، هذه خيمة من إدلب، وتلك من الغوطة، وهذه عائلة من طائفة كذا، وأولئك موالون لفصيل دون آخر، وسط هذا الواقع، يتبدد ما كان يُسمى “بالهوية السورية”، أو يتحول إلى شبحٍ باهت من زمنٍ لم يعد قائماً.
هذا المقال يحاول أن يطرح سؤالاً صعباً: هل ما زال هناك شيء اسمه الهوية السورية؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف يمكن ترميمها في خيامٍ لم تعد تتسع حتى لأحلام صغيرة؟
لم تكن الحرب في سوريا مجرد صراع على السلطة أو احتكاكاً بين فصائل متنازعة، بل كانت زلزالاً ضرب البنية العميقة للانتماء الوطني، فمنذ اللحظة التي خرج فيها السوريون إلى الشوارع عام 2011 مطالبين بالحرية والكرامة، كان من الواضح أن الهوية التي تربطهم بالوطن أضعف من أن تصمد أمام القمع الدموي والانقسام السريع في المواقف والانتماءات.
مع دخول الحرب مراحلها المختلفة، بدأ السوريون ينظرون إلى بعضهم البعض بعدسات جديدة: مناطقية، طائفية، وحتى طبقية، لم يعد السوري “سوريّاً” بقدر ما صار “حلبيّاً”، “درعاويّاً”، “علويّاً”، “سنّياً”، “كرديّاً”، أو حتى “نازحاً” و”مقيماً”.
فالحدود التي كانت يوماً رمزية بين المحافظات والمدن، تحولت إلى أسوار نفسية يصعب كسرها، وساهم نظام الأسد، الأب ثم الابن، في هذا التصدع منذ عقود، حين هندس مفاهيم الانتماء الوطني لتكون مرادفة للولاء له شخصياً، لا للدولة أو الأرض أو الشعب، وحين انهار هذا البناء المصطنع تحت ضغط الثورة والحرب، لم يكن هناك قاعدة حقيقية تربط السوريين ببعضهم البعض سوى معاناتهم المشتركة، وهذه وحدها لم تكفِ لبناء هوية موحّدة.
في مراحل متقدمة من الحرب، تكرّست هذه التمزقات أكثر، كل منطقة تخضع لفصيل مختلف، لكل منها رؤيتها وخطابها ومناهجها وقنواتها الإعلامية، ومع كل قصف أو تهجير أو مجزرة، كانت تتعمّق الفجوة بين مكوّنات المجتمع، ويتآكل ما تبقى من شعور بالانتماء إلى وطنٍ واحد.
وهكذا، تحوّل الانتماء الوطني من شعور جامع، إلى ذكرى مشوّشة، ثم إلى عبء أحياناً، يتداوله الناس في المخيمات بأسى، أو يُعاد تعريفه وفق تجاربهم الصغيرة والمجزأة. وأمام هذه الفوضى الهوياتية، يبقى السؤال: هل ما زال بالإمكان ترميم هذا الانتماء، أم أننا نعيش في وطن لم يعد يعرف نفسه؟
لم تكن المخيمات مجرد أماكن للاجئين والنازحين، بل تحولت إلى فضاءات تعكس واقع الانقسام المجتمعي على الأرض، حيث تتشابك الهويات بصورة مركبة لكنها ليست بالضرورة تصارع مباشر بين أطراف متنازعة، أكثر ما يبرز في هذه الأماكن هو الانتماء المحلي أو المناطقية، التي تنبع من التجارب الحياتية، والروابط الاجتماعية الضيقة، والأزمات المشتركة.
داخل المخيمات، يجد النازحون أنفسهم مع أفراد من مناطق مختلفة، تحمل كل مجموعة خصوصياتها، ولهجاتها، وعاداتها، ونظرتها الخاصة للأحداث، هذه الاختلافات لم تؤدِ إلى نزاع مباشر دائم، لكنها ساهمت في خلق فجوات غير مرئية أحياناً، تتبدى بوضوح في تفاصيل الحياة اليومية، واحدة من أهم مظاهر هذه الفجوات هي تفاوت توزيع المساعدات الإنسانية، التي لا تخلو من تأثيرات مناطقية أو قبلية في بعض الأحيان، فبعض مديري المخيمات أو المسؤولين في المنظمات، وبدافع الانتماء العائلي أو المحافظاتي، يميلون إلى تفضيل مناطق معينة أو العائلات القريبة منهم، مما يزرع شعوراً بالاحتقان وعدم المساواة بين نازحي المخيم الواحد، ولربما إعطاء عائلة أكثر من أخرى بسبب هذه الانتماءات المعينة لذلك.
هذا التفاوت لا يظهر فقط في المساعدات، بل يتغلغل أيضاً في فرص العمل داخل المخيم، وفي وصول الخدمات، حتى في التمثيل ضمن لجان الإدارة المحلية للمخيمات، كما أن التباينات في الرأي السياسي والاجتماعي بين سكان المخيم من مناطق مختلفة تزيد من تعقيد المشهد، ورغم هذا الواقع، فإن المخيمات ليست ساحات للصراع المفتوح، بل يمكن اعتبارها مختبراً اجتماعياً يعكس تجاذبات الهويات الصغيرة، التي تنبع من ظروف النزوح والتهجير، وتُعيد إنتاجها بشكل جديد، وفي كثير من الأحيان، يتجاوز النازحون هذه الانقسامات الظاهرة بتعاونهم في مواجهة تحديات الحياة اليومية، معتمدين على أواصر إنسانية تتخطى الجغرافيا.
في المحصلة، يمكن القول إن المخيمات تمثل صورة مصغرة لما حل بالمجتمع السوري من تصدعات داخلية، لكنها أيضاً مساحات ممكنة لإعادة التفكير في بناء هوية جامعة، إذا ما وُجدت الإرادة والدعم المناسبان.
يروي لنا أستاذ مهند خالد، وهو مدرس يقيم في أحد مخيمات الشمال السوري، صورة واقعية تعكس التعقيدات التي تعيشها المخيمات على صعيد الهويات والانتماءات، “داخل المخيم، نعيش جميعاً تحت سقف واحد، لكن الواقع يؤكد أن الانتماءات المحلية ما تزال قوية، وأحياناً هي سبب في تفاوت بسيط في المعاملة وفرص الحصول على الدعم، على سبيل المثال، لاحظت أن بعض المنظمات أو حتى إدارة المخيم تميل لتوزيع المساعدات بشكل أكثر تركيزاً على العائلات أو المناطق التي تنتمي إليها، حتى وإن لم يكن هذا واضحاً أو مقصوداً بشكل مباشر، هذا يخلق نوعاً من الاحتقان، ويُشعر البعض بأنهم أقل قيمة أو تأثيراً داخل المخيم”.
ويضيف مهند “مع ذلك، نحن نحاول تجاوز هذه الخلافات الصغيرة من خلال الفعاليات المجتمعية، والعمل التطوعي، ومحاولات بناء شبكة علاقات بين النازحين من كل المناطق، لأننا نعلم أن وحدتنا داخل المخيم ضرورة للبقاء والصمود”، تعكس شهادة مهند واقعاً نراه في المخيمات حيث يلتقي التحدي المادي مع التحدي النفسي والاجتماعي، وتبرز الحاجة إلى وعي أكبر من المنظمات والإدارات لتخفيف هذه الفوارق، والعمل على بناء هوية مشتركة تجمع النازحين بدلاً من أن تفرقهم.
في سياق الحديث عن المخيمات كمرايا تعكس أزمة الهوية السورية، يرى الباحث السياسي جمعة لهيب أن القضية أعقد من أن تُختزل في المخيمات كسبب للتمزق، بل يعتبرها على العكس نموذجاً مضاداً يعيد التذكير بالمظلومية السورية المشتركة، رغم كل الفوارق المناطقية والطائفية.
يقول لهيب لموقع سطور: برأيي أن الشعب السوري بالعموم يعاني من تشوّه في الهوية السورية، ولعل أزمة المخيمات هي أخف الأسباب لذلك، فنحن نعيش ضمن فضاء أيديولوجي مشوّش، تتنازعه انتماءات ما دون الدولة كالقبلية والعرقية، وما فوق الدولة كالإسلامية السنية أو الشيعية، والقومية العربية والكردية، ويضيف في هذا المنظور، تبدو المخيمات مثالاً مضاداً للتمزق، لأنها رغم كل شيء جمعت السوريين من مناطق مختلفة، وأعادت إنتاج شعور عام بالمظلومية السورية، ولو من زاوية سنيّة، هذا التفتت في الهوية، برأيي، هو نتيجة طبيعية لسياسات النظام البائد، ولكنه أيضاً من مفرزات الحرب، التي كسرت ما تبقى من تماسك هش.
لكن لهيب لا يكتفي بالتشخيص، بل يرسم مخرجاً ممكناً، مشدداً على ضرورة بناء دولة وطنية حديثة قادرة على إنتاج هوية جامعة، فإعادة خياطة النسيج الوطني السوري مهمة الدولة الوطنية وحدها، فالوطنية ليست صفة لازمة للفرد فمن حق أي شخص أن يرفض الشعور بالانتماء، لكن الدولة لا يُعقل أن تكون إلا وطنية، فإذا فقدت هذه الصفة، فقدت مبرر وجودها، وأصبحت مسؤولة بشكل مباشر عن غياب الهوية الجمعية، هكذا، يُعيدنا التحليل السياسي إلى نقطة جوهرية: أن الهوية ليست مسألة فطرية أو تلقائية، بل نتاج سياسة وثقافة وعدالة.
ختاماً، الهوية ليست شعاراً نرفعه، بل وعيٌ يتشكّل، وذاكرة تُصاغ، وعدالة تُمارَس، وما تمزّق في سوريا خلال سنوات الحرب، لم يكن انتماءً هشّاً بقدر ما كان كياناً لم يُمنح يوماً حق النمو في بيئة حرة وعادلة، لكن حتى في أكثر المساحات هشاشة، مثل المخيمات، ما تزال هناك إمكانية لإعادة بناء ما تهدّم، ليس بعودة الشعارات، بل بإعادة الإنسان إلى مركز الوطن، ليكون الانتماء فعلاً يومياً لا شعوراً قسرياً، فالهوية لا تُفرض، بل تُكتَسب حين يشعر الجميع أنهم متساوون تحت سقف واحد اسمه سوريا.