سياسة

من فتنة النصارى إلى باب الحارة جذور الطائفية في سوريا

يونيو 20, 2025

من فتنة النصارى إلى باب الحارة جذور الطائفية في سوريا

لم تكن القوات الفرنسية التي دخلت دمشق بعد معركة ميسلون في 24 تموز/ يوليو 1920 هزيلة إلى الحد الذي يجعلها تترك كل معادلات توازنات القوى وتوازعها في المنطقة بينها وبين بريطانيا لتلتفت إلى تسخير عساكرها لإبقاء باب حارةٍ مفتوحاً، أو حتى إزالته من مكانه، فالنزاعات الإقليمية، وحركات المقاومة المحلية، والتنازع الدولي، ودولة اليهود التي لا يخبون ليل نهار وهم يعملون من أجلها، وانشغال فرنسا برسم هوية جديدة للمنطقة، كل هذه شكلت الوجه الحقيقي للاحتلال الذي أغفلته مسلسلات البيئة الشامية وغفَّلَته!



التدخل الفرنسي في المنطقة الممتد لعقود قبل احتلالها سوريا، والذي تُوِّج بإجهاض المحاولات السورية الفيصلية لإنشاء حكم ديمقراطي تعددي يضمن حريات المجتمع واستقلالية الرأي، لم يكن مثل رؤيا احتلت مخيلة البلاد لـ 26 سنة، إذ ما تزال آثاره لاعباً مهماً في سياسة دول المنطقة، من إنشاء لبنان الكبير واستقلاله عن سوريا، ومن ثم اضطراب الهويات الذي سينجم عنه حروب أهلية طائفية، ومناطق النزاع التي رسمتها معارك الكرِّ والفرِّ خلال الثورة السورية.



لا بد لنا أثناء دراستنا مسألة الطائفية أن نركز على المقدمات التاريخية للحدث، ونفتش في ما وراء الألوان التي جزأت خريطة البلاد خلال السنين الماضية، بين قوى ومناطق نفوذ وحاكميات ومليشيات، فالطائفية بتعرفينا لها في مقال سابق أنها “سوق سوداء للسياسة”، تتجاوز حركات الاحتجاج والغضب الشعبي ومظلوميات المكونات، إنها حكاية الجماعات التي لم تجد لممارسة السلطة إلا شكلها المشوَّه، فرسمت عبر استثمارها طائفتَها خطوط إبهام وعينا الجريح، والتي تجمعت مع مرور الوقت لتشكل البصمة التي ستميز قراءتنا السياسية والاجتماعية والتاريخية لذواتنا.

 


الدم يبني الطائفة

 

في أحد أيام شتاء دمشق عام 1840، اختفى رجل دين كاثوليكي يُدعى الأب توما إيطالي الأصل من رهبنة الفرنسيسكان، والذي كان يقيم في دير اللاتين القريب من حي اليهود. لم يكن الأمر اعتيادياً، إذ رافق اختفاءه اختفاء خادمه السوري المسلم إبراهيم عمارة. وخلال ساعات، بدأ الهمس، ثم الاتهام، ثم التحريض “اليهود خطفوا الأب لاستخدام دمه في طقوسهم!”



كان المشهد يشبه قصص الرعب التي تُروى في الليالي المتوترة: غرفة مظلمة، ضحية بريئة، وسكين شعائرية تُقطر دماً على رغيف فطير. هكذا، أعيد إحياء “فرية الدم”، التهمة القديمة التي لطالما وُجهت لليهود في أوروبا، ولكن هذه المرة، على أرض دمشق المسلمة، وبدعم واضح من القنصل الفرنسي والبعثة الدبلوماسية الأوروبية.



أُلقي القبض على عدد من وجهاء اليهود الدمشقيين، أبرزهم سليمان حنينة، أحد كبار التجار. وبدأت التحقيقات تحت التعذيب، في ظل ضغط القنصل الفرنسي والمسؤولين الكنسيين. اقتُلعت أظافر، وأُحرقت أقدام، وانتُزعت “اعترافات” تحت السياط. مات بعض المعتقلين تحت التعذيب، ووُجدت “أدلة” غامضة لم تُعرض على العلن، لكنها كُرّست في المحاضر الفرنسية باعتبارها إثباتاً دامغاً.

في هذه الأثناء، وصلت أصداء الحادثة إلى أوروبا، حيث اندلعت موجة تضامن واسعة من يهود العالم، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا.


دفع ذلك اللورد بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني، إلى التدخل والضغط على السلطنة العثمانية لإيقاف الانتهاكات وفتح تحقيق جديد.



وبالفعل، أُجبر محمد علي باشا -الذي كانت دمشق آنذاك خاضعة لحكمه- على فتح تحقيق، وانتهت القضية بالإفراج عن من تبقى من المعتقلين، واتهام عدد من الضباط بالتزوير والتواطؤ، لكن بعد فوات الأوان.


كانت دمشق قد انقسمت طائفياً في الرواية والخيال الشعبي المسيحي ضحية، واليهودي شيطان، والمسلم في موضع حرج. أما “الطائفة”، فقد خرجت من كونها علاقة دينية داخلية إلى هوية دولية محمية لها قناصل وسفراء.



ورغم عدم تحول الحدث إلى فتنة شاملة، فقد مهّد الأرضية لفكرة جديدة وخطيرة: أن الطائفة كيان سياسي قابل للاستدعاء الخارجي باسم “الحماية”. فتحوّل التدين من علاقة روحية إلى موقع تفاوض دولي، وتحولت المدينة من فسيفساء متجاورة، إلى حقول ألغام لا تُرى.


بإمكاننا أن نقول، إنه من هنا بدأت البنية العميقة للطائفية في بلاد الشام تتشكل، لا كصراع ديني مباشر فقط، بل كشبكة ولاءات متقاطعة، وهوية مدولنة، يمكن استخدامها كلما آن أوان رسم الخرائط أو تقاسم النفوذ.

 


فتنة 1860، تكوُّن الطائفية السياسية:

 

انفجرت شرارة فتنة في حزيران/ يونيو من عام 1860، والتي بدأت في جبل لبنان، وامتدت خلال أسابيع إلى قلب دمشق. ما بدأ كصراع محلي بين الدروز والموارنة في القرى الجبلية، على خلفية تاريخية مركبة من الامتيازات الإقطاعية والنفوذ الديني والتفاوت الاقتصادي، سرعان ما خرج عن نطاقه، ليتحوّل إلى سلسلة من المجازر والأعمال الانتقامية، كان أعنفها في أحياء دمشق المسيحية، وخصوصاً في باب توما والقصاع.



في دمشق، حيث كانت العلاقات بين الطوائف تسير على حافة التوتر منذ عقود، لم تكن الفتنة حدثاً عابراً، بل كشفت عن عمق الانقسام الكامن تحت سطح المدينة. تشير التقديرات إلى أن آلاف المدنيين المسيحيين قُتلوا خلال أيام، كما تعرضت كنائس وأديرة للنهب والحرق، وسط صمت أو تواطؤ من بعض المسؤولين العثمانيين. الحاكم العثماني للمدينة، أحمد باشا، وُجهت له لاحقاً انتقادات واسعة لعجزه عن السيطرة، أو لسكوته عن العنف المتصاعد.



ردّ الفعل الدولي لم يتأخر، خصوصاً من جانب فرنسا، التي اعتبرت نفسها وصية تاريخية على مسيحيي المشرق، فأرسلت نحو 6 آلاف جندي إلى جبل لبنان، تحت غطاء “حماية الطوائف المسيحية”، وبموافقة الدولة العثمانية ذاتها. لم يكن هذا مجرد تدخل عسكري عابر، بل أسّس لمرحلة جديدة من العلاقة بين الطوائف والدولة. فبعد المجازر، تم إقرار نظام “القائم مقاميتين”، الذي قسّم جبل لبنان إدارياً بين الدروز والموارنة، وأدخل مبدأ المحاصصة الطائفية إلى بنية السلطة.



أما في دمشق، فقد كان أثر الفتنة طويلاً وغير مرئي. لم تُقسّم المدينة إدارياً، لكنها تغيّرت اجتماعياً: تصدّعت الجيرة، وتكاثف الحذر، وصار الانتماء الطائفي علامة لا تُخفى، لا تُناقش، ولا تُفكك. ربما لم تكن الفتنة إيذاناً بولادة الطائفية، لكنها شكّلت لحظة إعادة تعريف لها، حين صار ممكناً للعنف الأهلي أن يتحول إلى لغة سياسية، وللهوية الدينية أن تُترجم كرمز أمني وحدّ دولي محتمل.



كان واضحاً، منذ تلك اللحظة، أن الطائفة لم تعد مجرد هوية لاهوتية، بل وحدة سياسية قابلة للتمثيل والتدخل والتفاوض. وأن مستقبل بلاد الشام سيُرسم، جزئياً، بأقلام طوائفها، لا فقط بسياسات دولها.

 


الاحتلال الفرنسي: الطوائف حدوداً على الخريطة

 

في صيف عام 1920، دخلت القوات الفرنسية دمشق بعد معركة ميسلون، منهية بذلك الحلم الفيْصلي بدولة عربية موحدة، ومستهلّة عهداً جديداً من الإدارة الاستعمارية. لكن فرنسا لم تكتفِ بإسقاط مشروع الدولة الوطنية، بل مضت أبعد من ذلك في رسم خريطة جديدة لسوريا، خريطة لا تقوم على الجغرافيا وحدها، بل على الطوائف أيضاً. خلال سنوات قليلة، أنشأت سلطات الانتداب الفرنسي ما يُعرف بـ”الدويلات الخمس”: دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل الدروز، دولة العلويين، ودولة لبنان الكبير.



لم يكن هذا التقسيم مجرد إدارة مؤقتة لمناطق مختلفة، بل رؤية استعمارية راسخة تعتبر أن المكونات الطائفية هي الوحدات الأكثر “قابلية للحكم”. بدا واضحاً أن فرنسا لا ترى في سوريا كياناً سياسياً واحداً، بل مجموعة “جماعات محلية” تحتاج إلى حدود إدارية تفصلها، وحكومات محلية تديرها، وهويات طائفية تضبط علاقاتها ببعضها البعض. فـ”الخصوصية الطائفية” لم تكن بالنسبة لها عائقاً، بل أداة يمكن إدارتها سياسياً وعسكرياً وثقافياً.



لم تكن الطائفة مجرد موروث اجتماعي أو ديني، بل صارت أساساً لإعادة تشكيل العلاقة بين المجتمع والدولة، على سبيل المثال، تأسست “دولة العلويين” على الساحل السوري تحت شعار ضمان خصوصية الطائفة العلوية، وفُصلت إدارياً عن دمشق، في وقت كانت فيه فرنسا تسعى إلى تشكيل جيش محلي، اعتمد في بنيته الأولى على مجنّدين من الأقليات، وخاصة العلويين.



هذا السياق لم يمر دون مقاومة. في دمشق وحلب، وفي جبل العرب، اشتعلت الثورة السورية الكبرى (1925-1927) كأول تمرد شامل ضد الانتداب، رافضةً التقسيم الطائفي، ومطالبةً بوحدة الأراضي السورية. لكن آثار التقسيم كانت قد ترسّبت. فحتى بعد إنهاء الدويلات وعودة الشكل المركزي للدولة السورية، بقيت البنية الإدارية والتعليمية والعسكرية مشبعة بمنطق التفكيك الطائفي.



ما فعله الانتداب الفرنسي في سنواته الأولى لم يكن فقط تقسيماً جغرافياً، بل تثبيتاً للطائفة كوحدة سياسية صالحة للحكم، قابلة للفصل، مؤهلة للاستقلال أو الاتكال، بحسب مقتضيات المرحلة. ومع الزمن، ستجد الطوائف نفسها قد أصبحت طرفاً في معادلة الدولة، لا من موقع المواطن، بل من موقع الجماعة.

 

 

 

خريطة ما بعد الصدمة:

 

لم تكن فرنسا، حين دخلت دمشق في صيف 1920، منشغلة بفتح أبواب الحارات أو إغلاقها، كما تحاول بعض المسلسلات أن تُقنعنا. لم تكن قوة عسكرية هزيلة تتجول في الحارات بحثاً عن “فتوة”، بل كانت قوة استعمارية ترسم بدقة حدود الطوائف، وتبني خريطة لبلاد ستتذكر لاحقاً أسماء الدويلات التي أنشأتها أكثر مما تتذكر أسماء شوارعها.



ورغم زوال الانتداب، لم تنتهِ مفاعيل ما زرعه من هندسة اجتماعية وإدارية. بقيت الطائفة حاضرة كمنطق غير معلن للحكم، وشرط ضمني في التعيين والتجنيد والتوزيع الإداري، وإن جرى ذلك تحت شعارات الوحدة والحداثة.



لكن اللحظة التي عادت فيها هذه الطوائف للظهور بوجهها السياسي الصريح، كانت بعد الثورة السورية، حين تراجع المركز وتفكّكت الدولة. العلويون أسسوا السلطة التي اعتصموا فيها بالساحل، معلنين تمسكهم بمنطقة تشكّل “الحد الأدنى الممكن” من الأمان والتمثيل. وفي الجنوب، طالب الدروز مراراً بإدارة ذاتية ولا مركزية واضحة، مؤكدين أن العودة إلى دولة مركزية بدون ضمانات واضحة لم تعد ممكنة.


ما نعيشه اليوم هو استمرار لخط بدأ منذ قرن، حين قُسمت البلاد لا على أساس الجغرافيا فقط، بل على أساس الطائفة. ليست المشكلة أن الطوائف وُجدت، بل أن الطائفة تسلّلت إلى موقع التعريف السياسي للمجتمع: من أنت، من يحكمك، من يحميك، وإلى أين تهرب إن سقطت الدولة.



السؤال الآن ليس: كيف نُخرج الطوائف من الدولة؟، بل: هل يمكن إعادة تخيّل الدولة دون أن تمر خريطتها من بوابات الطوائف؟ وهل نستطيع كتابة وطن لا يبدأ من باب الحارة، ولا ينتهي في غرفة المفاوضات الطائفية؟

شارك

مقالات ذات صلة