سياسة
ليست الجولة الأخيرة، لكنها جولة كبيرة. الحرب ما هي إلا امتداد للسياسة بأدوات أخرى أكثر خشونة ووضوحا. ما بعد طوفان الأقصى يستلهم قيمته من آيات الصمود التي تفرض كرامتها وتضحياتها على أعين العالم المتعامية، أو التي تحاول بلا طائل التعامي، وتلك التي أخيرا تتفتح وتصطف وتسعى للمقاومة في كل أركان الأرض بذات القوة، لفرض الذات التي رسمها المقاوم الفلسطيني، لا بعد طوفان الأقصى فحسب، وإنما لعقود خلت، بثبات وبلا اهتزاز أو لحظات ركون أو موجات انحسار. ويقينا ليس من أدبيات حركات التحرر الوطني رفاهية التوقف أو الركون، فهي دومًا حرب بقاء والانهزام يساوي الاندثار. يقترب الانتصار بقدر الصمود وحده في هذه المعركة، فضلا عن تحقيق مكاسب وانتصارات لا على المستوى التنظيمي وحده، وإنما على نوعية القتال والمقاتل ورسائل المسافة صفر والعتاد الذي يُدار بكل اقتدار وبثبات، فتعيد إحياءا محسوبا ومؤثرا وثابتا.
يتعين علينا أولا أن نحدد تعريف الانتصار، لنستشرف مستقبلا قريبا سيحدد فيه التاريخ منتصرا حقيقيا ومهزوما محققا، في معركة على البقاء والوجود والحياة. وكما أسلفنا، فهذه الجولة لن تكون آخر جولات الصراع، لكنها ربما الأبقى و الأثبت، إلى حين على الأقل. معادلات الانتصار هنا لا ترتبط بحسابات كل طرف وحسب، وإنما بفرض الإرادة وغزْل الواقع بثبات وخلق مقومات استدامة تسمح بتثبيته لفترة طويلة.
الاحتلال – أي احتلال – لا يمتلك مقومات الاستدامة على أرض خصمه وإن تمكن من أدوات جزئية لفترة محددة. الوجود الصهيوني على أرض فلسطين استمد ما يعتقد أنه استدامة لوجوده دوما من عون دخيل لا علاقة له بالأرض ولا بأهلها، ذلك العون الذي يذوب الآن ويندحر رغم مقاومته الشرسة تحت وطأة ضمير شعبي عالمي استيقظ كالمارد الذي لن يُرد. أما عن الاحتلال، فانهزامه واقع بالفعل متمثلٌ في فشله الدائم في تغيير صفته لغير محتل غاصب، وتفكك وهم تفوقه كل يوم لعقود أمام حجارة هنا أو ترسانة سلاح للمقاومة أيضًا هنا. حتى الانحدار العربي الأخير، الممتثل لمخطط التطبيع والمهادنة بل والانحياز أحايين كثيرة حتى يأتي السابع من أكتوبر، فينهزم كالمعتاد أمام إرادات شعبية لم تهضم السلام الدافيء يوما ولم تلزم نفسها به، ينهزم أمام حملات المقاطعة الساحقة وإرادات الشعوب التي، إن طال الزمن أو قصر، يستحيل ثنيها أو لي الحقيقة في وجدانها.
أما عن سيناريوهات مشهودة تحددها وقائع الحاضر الذي نكتوي بناره كل يوم ونأبى إلا في تصديق انتصار الحق ولو بعد حين، فمنها الأسوأ والأفضل. والمعيار في تحديد هذا وذلك لا يتبع الهوى أو الأمنيات وإن غلت، وإنما يحدده الواقع الذي لم يعد خافيا على صاحب عقل أو قارئ لمسار التاريخ. وكما دبت الحياة في القضية الفلسطينية بعدما أبى محيطها في الإقليم إلا من وأدها بدم بارد وعقل شارد ، فمحاولات الأشقاء المستميتة والأصدقاء بل والشركاء لخنقها وتجفيفها ذابت كالثلج الهش تحت أقدام المقاومة وآلاف السائرين من شمال القطاع إلى جنوبه تحت القصف، وأمام مشاهد الإبادة والفقد والترويع أمام أعين كل ذي عين وعقل لأكثر من نصف عام، لم يكن الانتصار للقضية الفلسطينية العادلة أقرب من اليوم ولا أوضح.
أما عن أسوئها؛ فقد يلجأ الكيان الصهيوني إلى إعادة احتلال القطاع، فيما سيحاول تصويره وكأنه امتداد لانتصار وهمي يتغنى به على الأرض أو مقدمة لتنسيق إقليمي لمصير أبطال القطاع من المدنيين المحتسبين الصابرين والذين بمجرد صمودهم رغم الإبادة الجماعية والتهجير والتجويع وآلة القتل المجرمة يرسخون أعظم انتصارات التاريخ الحديث بما يشبه العصيان المدني العفوي، أو هو مجرد صمود فطري جبل عليه أهل تلك الأرض.
وأما عن أفضلها؛ وإن نسبيا أمام مشهد العار على البشرية جمعاء باستمرار الجرائم ضد الإنسانية لأكثر من سبعة أشهر، فقد تتجلى المقاومة الفلسطينية كما تجلت بالصمود طوال الفترة الماضية بالتمكن من فك الحصار كليا عن القطاع – وإن قبلت – فتح باب لإعادة إعمار القطاع بشكل أو بآخر سواء من قبل قوى إقليمية لم يسقط عن رأسها أبدا خزي التواطؤ والتصديق على تلك الجرائم، أو تبريرها. الاعتراف المؤسسي والرسمي من دول سيزداد عددها انتصار لا قبل للكيان الصهيوني بمواجهته، ولا لداعميه بترهيبه. دولة الاحتلال تذوب حرفيا ولم يبق لها وجه تصدّره لقريب متواطئ أو لبعيد حاضن.
التغير الحادث في معادلات القوة والردع ليس هينا. انهيار أكذوبة الردع الإسرائيلي تبني تلقائيا أسطورة الردع الفلسطيني والصمود الذي تشكل لعقود. الأهم هو انهيار أسطورة الردع في نفوس الإسرائيليين مستوطنين وغرباء. انتصار لا ينتظر تأكيدا منذ اليوم الأول، فقد اختبر في فشل منذ اللحظة الأولى في احتواء عملية المقاومة أو دحرها أو حتى تخفيف وطأتها. فشل على كل الأصعدة بدءا من الاستخبارات إلى العمليات إلى الأسرى. يمتد هذا الأثر إلى عمق المحيط فتنفتح ابواب الجحيم تدريجيا من كل حدب وصوب، تارة في عمليات تحقق الهدف من الضفة المحتلة، أو من لبنان والعراق واليمن، وأخرى في طوفان الغضب العالمي في الجامعات والعواصم والمجلات الحقوقية والصحفية والشعبية. هذا هو الردع الذي يبقى ولا يندثر، بلا حماية مصطنعة أو آلة حرب فائقة.
الطريق إلى الحل النهائي في مقابل التسوية التي تدرج سقفها انخفاضا يبدأ من هنا، من المقاومة، ولم يكن أبدا أبعد عن السلطة من هذه اللحظة التي يسجلها التاريخ حرفا بعد حرف، ونقطة دم تلو الأخرى. أستعير ما آمنا به في مسيرتنا للتحرر من الاستبداد بمبدأ قرأناه خلال أربعة عشر عاما وحفظنا مفرداته.. ”غير الدم ما حدش صادق“. لن تستقيم معادلة السلام في المنطقة إلا بدولة فلسطينية مستحقة. ولن يزايد السياسي على الشهيد لا في هذه الجولة ولا في غيرها، هذه سنة الكون ومساره الحتمي. فالتهجير القسري واتفاقات العار ما علا منها الطاولة وما أبرم أسفلها، لا يلزم إلا نفسه، فكيف ستلزم الثكالى واليتامى والصامدين بالخنوع للفقد والإبادة والتفريط وأنت لا صاحب الأرض ولا صاحب الثأر. التضحيات العظيمة تسير بثبات نحو معادلة منطقية وواقعية لا يمكن معها لا محو التاريخ ولا حتى تحريف مساره. الشعب الفلسطيني أصلا غير مؤهل للهزيمة، بخاصة الآن بعدما رسخت أقدامه أمام آلة الإبادة والتآمر والتجويع ومحاولات التهجير.
وبيقين … نحن في انتظار وعد الله الحق
“إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”