أدب

متى يُصبح الوطن فكرة.. لا مكان؟ عن السوريين، والمهجّرين، واللاعبين الذين لا يرتدون قمصانهم الحقيقية

يونيو 19, 2025

متى يُصبح الوطن فكرة.. لا مكان؟ عن السوريين، والمهجّرين، واللاعبين الذين لا يرتدون قمصانهم الحقيقية

– أسماء البري


حين تغادر وطنك، تظن أنك تترك شارعاً أو بيتاً أو مدينة فقط، لكن الحقيقة أعمق، أنت تخلع عنك جلداً اعتدت عليه، وتدخل في جلدٍ جديد لا يشبهك، وبالنسبة للسوريين، الغربة ليست تجربة، إنها تحوّل جذري، يبدأ بالقهر، ويمر بالانتظار، وينتهي أحياناً بالتصالح مع الغياب.



وهنا، تطرح الذاكرة سؤالاً ثقيلاً: متى لا يعود الوطن مكاناً نعود إليه، بل فكرةً نحملها أينما ذهبنا؟



السوري.. حين يُهجّر صوته


أن تكون سورياً في الشتات، يعني أن تُجبر على ترك كل ما يُشبهك: لهجتك، مدرستك، حتى وجه أمك حين تناديك من الشباك.

يعيش كثير من السوريين اليوم على هامش خارطة لم يختاروها، يُعرّفون عن أنفسهم بلغات جديدة، ويُفسرون وجعهم في مؤتمرات لجوء، بينما في داخلهم طفل صغير ما زال يبحث عن لعبة تركها خلفه.



اللاعب، الطالب، المواطن السوري.. تحت أضواء لا تضيء داخله


من بين أكثر من عانى من الشتات السوري، هناك من ارتدى القميص الخطأ، الزّي الخطأ، وربما الكتاب الخطأ، رغم أن قلبه ما زال على المدرجات الأولى في حلب ودمشق وحماة.



اللاعبون السوريون في المهجر غالباً ما حُرموا من تمثيل منتخبهم لأسباب سياسية أو شخصية، فاختار البعض اللعب تحت علم آخر، وآخرون اعتزلوا بصمت، أما الطلاب السوريون الذين حُرموا من أبسط حقوقهم كأن يتكلموا بلغتهم ولهجتهم أمام الناس لعدم تعرضهم للعنصرية من جديد..


 اقتباس مؤلم للاعب سوري محترف في أوروبا: “كلما وقفت في الملعب ونظر الناس إليّ كأنني أنتمي لدولةٍ أخرى، كنت أتمزق من الداخل. أنا سوري.. حتى وإن مُنعت من تمثيلها”.

حتى في لحظة الانتصار، يبقى في داخلهم حنين إلى خساراتهم الأولى.. في الوطن.



 سوريا.. الوطن الذي هاجر منك


ليست كل غربة اختياراً. فبعض الأوطان، ترحل عنك حتى وأنت فيها.

لكن سوريا التي يعرفها اللاجئون لم تعد نفسها. تغيرت شوارعها، وجدرانها، وملامح ناسها بسبب الحرب والظلم الذي أخذ منهم كل شيء يملكونه حتى الذكريات.

يولد الأطفال في المخيمات أو المدن الجديدة، وتكبر ألسنتهم بلغة لا تشبه أمهاتهم، وتبقى سوريا اسماً يرتجف القلب حين يُقال.



متى يُصبح الوطن فكرة لا مكاناً؟


حين يقول لك ابنك: “بابا، شو يعني الشام؟، حين تمضي عشر سنوات، ولا يظهر بيتكم على خرائط الإنترنت، حين تتعلم لغة أجنبية لتعمل بينما تحلم بالعربية، حين تُقصى من منتخب وطنك لأنك قلت الحقيقة.


في كل هذه اللحظات، يتحوّل الوطن من خريطة إلى ذاكرة، ومن عنوان على مغلف الرسائل إلى حكاية تُروى قبل النوم.


صوت لا يصمت


رغم المسافة، ورغم الحرب، ورغم التهجير ما زالت سوريا تنبض فينا، عدنا منتصرين بكرامتنا التي دفعنا من أجلها الدماء، نراها في أغنية، في صورة، في صلاة أمّ، أو في هدف يسجله لاعبٌ سوري باسم دولة أخرى، لأن الوطن لا يُختصر في الحدود بل يعيش فينا كفكرة، كندبة، كحلمٍ مؤجل.

شارك

مقالات ذات صلة