مشاركات سوريا
– بلال صطوف
تمر سوريا اليوم بمنعطف حاسم لا يقتصر على إسقاط نظام سياسي فحسب، بل يكشف أيضاً عن هشاشة عميقة في بُنى المجتمع والدولة والمجال العام. رغم التنوع الديمغرافي والثقافي الواسع، ظل هذا التنوع محكوماً بسياسات إكراهية فرضها نظام البعث لعقود. فقد استخدمت إدارة التنوع لضبط المجتمع، لا لتحفيزه على التعبير السياسي أو التنوع الاجتماعي. اعتمد نظام الأسد استراتيجيات تهدف إلى تفكيك الهويات الجماعية وتحجيم التعبير السياسي لصالح تحالف سلطوي يُعرف بـ “طائفة الولاء”، ليست طائفية أو دينية بالمعنى الضيق، بل هي تحالف يحافظ على بقاء النظام.
مع انطلاق الثورة، دخل المجتمع السوري حالة من التشظي غير مسبوقة، تصاعدت فيها الانقسامات الطائفية الإثنية والمناطقية، وتآكلت المعايير المدنية التي كانت تضبط التعايش. ومع النقاش الحالي حول مستقبل سوريا ما بعد الأسد، لا تقتصر الحاجة على إعادة بناء مؤسسات الدولة، بل تشمل بناء المجتمع نفسه. في هذا الإطار، تبرز الصحافة لا كسلطة رابعة فقط تراقب وتمارس الرقابة، بل كفاعل مدني قادر على ترميم المجال العام وإعادة إنتاج القيم والمعايير الاجتماعية التي تساهم في تحقيق السلم الأهلي.
ولذلك، يجب أن لا نفكر في حرية الصحافة كحق قانوني فقط بحد ذاته، بل كوسيط اجتماعي معرفي يملك أدوات تحريرية تساهم في إعادة بناء التعايش على أسس مدنية وسلمية. والسؤال المركزي هو: هل تستطيع الصحافة السورية اليوم تجاوز دورها التقليدي كناقل ومراقب، لتصبح رافعة حقيقية لبناء السلام؟
لطالما وُصفت الصحافة بأنها “عين الشعب” وسلطته الرابعة، التي تراقب أداء السلطة وتفضح الفساد وتُساهم في توجيه الرأي العام. غير أن هذا الدور، وإن كان محورياً في السياقات الديمقراطية المستقرة، يكتسب أهمية مضاعفة في اللحظات الانتقالية، لا سيما في سوريا ما بعد الأسد. ففي مجتمع ممزق بنزاع طويل وتفكك عميق في الثقة بين مكوّناته، لا يكفي أن تكون الصحافة عيناً راصدة؛ بل يجب أن تتحول إلى يدٍ تمتد نحو المجتمع، تسنده، تُعيد لُحمته، وتُشارك في إعادة صياغة مستقبله.
في المرحلة المقبلة، لن يكون الصحفي السوري مجرّد ناقلٍ للحدث أو مراقبٍ للمشهد السياسي؛ بل من المتوقع أن يصبح فاعلاً مدنياً وشريكاً في إنتاج سردية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات وتواجه رواسب الكراهية والإقصاء، وتُمهّد الطريق نحو قيم المواطنة المتساوية والعيش المشترك. وهنا لا تعود الصحافة مجرد وظيفة مهنية، بل تتحول إلى مشروع اجتماعي مدني في قلب معركة إعادة البناء.
فالدور الديمقراطي للصحافة، المتمثل في المساءلة وتحليل السياسات وتمكين الجمهور من اتخاذ قرارات واعية، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بدورها المدني الذي يتطلب وعياً بالسياق ومرونة في الأداء. ففي بيئة هشّة كمجتمع ما بعد النزاع، تصبح إعادة بناء الثقة أولوية لا تقل أهمية عن التحول السياسي، وتُصبح الصحافة مطالبة بأن تؤدي دور الجسر بين الأفراد والمؤسسات، بين الذاكرة الجماعية والمستقبل المرجو.
ولذلك، لا تكفي الوظائف التقليدية للصحافة في سوريا الجديدة. ما نحتاجه هو صحافة تتجاوز فضاء السياسة الضيق، وتنغمس في عمق المجتمع، تُصغي إلى هموم الناس، تنقل صوت المهمّشين، وتُعيد ترتيب الأولويات الوطنية من منظور مدني جامع. فهنا، لا يُقاس دور الصحافة فقط بموقفها من السلطة، بل بموقعها من المجتمع، بقدرتها على تمكين الأفراد من تجاوز الخوف، واستعادة الحق في التعبير، وصياغة سرديات جديدة تُعيد الاعتبار لقيم التعدد والعدالة والمواطنة.
إنها صحافة تُضيء على المبادرات المحلية بوصفها نوى أولية لبُنى اجتماعية ناشئة، وتعيد طرح سؤال الدور الإعلامي على ضوء المعايير المدنية، لا المهنية فقط. فالمهنية وحدها لا تكفي في لحظة يتطلب فيها المجتمع إعادة بناءٍ شاملة، تبدأ بإعادة تعريف الصحافة نفسها: لا كوسيلة لنقل الحدث، بل كرافعة لتحولات مدنية عميقة.
تُعدّ المعايير المدنية، وهي جملة القواعد والقيم التي تنظّم التفاعل بين الأفراد على أسس الاحترام والتعدد والمساواة، عنصراً مركزياً في استقرار المجتمعات وتماسكها. غير أن هذه المعايير تعرّضت في سوريا لتآكلٍ عميق نتيجة سنوات الحرب، حيث انحرفت وسائل إعلامية كثيرة عن دورها المدني، لتتحول إلى أدوات للتجييش الطائفي والتحريض السياسي.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن بناء سلام مستدام في سوريا دون إعادة ترميم هذه المعايير. وهنا تبرز الصحافة بوصفها وسيطاً اجتماعياً أساسياً، يُفترض أن يساهم في إعادة إنتاج المعايير المدنية على 3 مستويات مترابطة: ترسيخ السلم الأهلي من خلال دعم خطاب المصالحة، ونبذ العنف، وتقديم سرديات متعددة تُقرّ بالضحايا دون استغلال قضيتهم وإنكار معاناتهم. تطوير اللباقة الموضوعية عبر احترام كرامة الأفراد، ومحاربة الصور النمطية، والابتعاد عن الخطابات الإقصائية أو الاستفزازية. تعزيز القدرات المدنية بدعم المشاركة العامة، وتسليط الضوء على المبادرات المدنية المحلية بوصفها نوى لمجتمع مدني ناشئ.
وليست الصحافة مجرد قناة لنقل المعلومات، بل هي أداة مركزية في تشكيل الذاكرة الجمعية وصناعة المعنى. وفي سوريا ما بعد الأسد، تتجاوز وظيفة الصحافة حدود الإبلاغ والتغطية، لتصبح عملية معرفية ثقافية بامتياز، تساهم في إعادة تخيّل الجماعة الوطنية على أسس جديدة.
ففي بلد ممزق مثل سوريا، يحتاج المجتمع إلى سرديات بديلة تُحفّز على التعايش بدلاً من الانقسام، وتبحث عن رموز جامعة تُلهم الأمل بدلاً من إعادة إنتاج مشاعر الخوف والكراهية. وهنا تبرز الصحافة فاعلاً مسؤولاً، لا لفرض رواية واحدة، بل لخلق فضاء تعددي يسمح بتعدد الأصوات والقصص، والاعتراف بالألم المشترك دون تسيّس الضحايا أو إعادة ترميز الجراح.
تتجلى الوظيفة التحويلية للصحافة في تنظيم النقاش العام، وطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، وربط الماضي بالمستقبل من دون الخضوع لثقل الذاكرة الجريحة. إنها ليست مجرد مهنة، بل مشروع تربوي مدني، يُعيد تعريف الصالح العام، ويُنتج خطاباً جامعاً يعيد ربط السوريين ببعضهم البعض على قاعدة المواطنة والحقوق والكرامة، لا على أساس الطائفة أو الجغرافيا.
إن الدور الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام في مرحلة التحول لا يتحقق بمجرد وجود صحفيين أحرار، بل يستلزم أيضاً مؤسسات إعلامية تضع مبادئ تحريرية واضحة، تنظم العمل وفق قيم السلم الأهلي، وتلتزم بالمعايير المهنية، وتتكيف مع تعقيدات السياق السوري. ولا يمكن أن تُبنى هذه المؤسسات على أسس متينة من دون حوكمة رشيدة، وآليات مساءلة شفافة، وتدريب مستمر يرسّخ فهماً عميقاً لتركيبة المجتمع السوري المنقسم.
وفي هذا الإطار، فإن إعادة بناء الإعلام في سوريا ما بعد الأسد يجب ألا تُختزل في تأمين الموارد المالية أو توفير التدريب التقني، بل تتطلب توفر 3 ركائز أساسية. أولها، “التوجيه التحريري المعياري”، أي ضرورة وجود وثائق تحريرية واضحة تُعرّف وظيفة الصحافة في دعم السلم الأهلي، وترسم ميثاقاً تحريرياً يقوم على مجموعة من المبادئ، أبرزها: الاعتراف بالتنوع بوصفه قيمة وطنية جامعة، ورفض العنف وخطاب الكراهية بكافة أشكاله، ودعم مسار العدالة الانتقالية مع التأكيد على مناهضة الإفلات من العقاب، وتمكين الضحايا من إيصال أصواتهم بكرامة ودون استغلال. وأخيراً، تعزيز المشاركة المجتمعية في صناعة المحتوى واتخاذ القرار التحريري.
رغم أهمية المبادئ العامة التي تُوجه العمل الصحفي، تبقى فعاليتها مشروطة بقدرة الصحفي على تكييفها بما يتلاءم مع خصوصيات السياق المحلي. فالصحفي في القامشلي يواجه تحديات مختلفة عن تلك التي يواجهها زميله في درعا، ما يجعل فرض معايير موحدة دون مراعاة الاختلافات السياسية والاجتماعية لكل منطقة أمراً غير مجدٍ.
لذلك، ينبغي أن يتركز التدريب الصحفي في سوريا على تنمية مهارات “التأويل السياقي”، أي القدرة على تحويل المبادئ المدنية العامة إلى سياسات تحريرية قابلة للتطبيق العملي تعالج قضايا محلية محددة، وتخاطب جماهير متنوعة بفعالية.
ويتطلب هذا أن يكون الصحفيون جزءاً لا يتجزأ من بيئتهم الاجتماعية والثقافية، لا غرباء عنها، وأن يُنظر إليهم كمواطنين ملتزمين بمسؤولياتهم تجاه مجتمعهم، لا كمراقبين خارجيين. وهذا لا يلغي أهمية وجود معايير مهنية راسخة، بل يدعو إلى إعادة تأويلها وتكييفها بحسب الظروف والحاجات المحلية.
لن يكون السلام في سوريا مستداماً ما لم تُفتح ملفات الماضي المظلم: الاعتقال، التغييب القسري، جرائم الحرب، والتهجير القسري. هنا يمكن للصحافة أن تؤدي دوراً محورياً كأداة للعدالة الانتقالية، عبر التوثيق الدقيق، وتسليط الضوء على الانتهاكات، وممارسة مساءلة أخلاقية ومسؤولة. لكن هذا الدور يتطلب حساسية عالية، فالمقصود ليس استعراض العنف بحد ذاته، بل تأطيره ضمن سردية تدفع نحو المساءلة والمصالحة ومنع تكرار هذه الانتهاكات.
فالصحافة ليست محايدة بالكامل، ولن تكون كذلك، لكنها يمكن أن تكون مسؤولة. يمكنها أن تتخذ موقفاً داعماً للعدالة دون الانزلاق في فخ الدعاية السياسية، وأن تمارس دور الرقابة دون الانخراط في دائرة الانتقام. فطريقها دقيق ومتوازن بين إدانة الظلم ومناهضة التحريض، وبين تمكين المجتمع من التعبير دون تبسيط أو تضليل.
هذا التوازن لا يُبنى فقط على النيات الحسنة، بل يحتاج إلى معايير تحريرية واضحة، ومؤسسات إعلامية مستقلة، وصحفيين واعين بأن الكلمة ليست مجرد سلاح، بل أداة للبناء والتغيير. في سوريا الجديدة، نحن بحاجة إلى صحافة تعرف متى تصمت، ومتى ترفع الصوت؛ صحافة تدرك متى تمنح الكاميرا للضحية، ومتى تضع الميكروفون في وجه الجلاد.
في الختام، لا يقتصر نجاح المرحلة الانتقالية على صياغة الدساتير أو عقد الصفقات السياسية، بل يتوقف بشكل جوهري على طريقة سرد القصص، وشكل النقاش العام، وإعادة تعريف مفاهيم الوطنية والمواطنة. فهذه المرحلة تتطلب أكثر من مجرد قرارات سياسية أو مؤتمرات مصالحة؛ تحتاج إلى خطاب جديد، وسرد جديد، ومعانٍ جديدة. وهنا تكمن أهمية الصحافة، فهي التي تصوغ هذه المعاني وتنقلها.
نحن بحاجة إلى وسائل إعلام لا تكتفي بسؤال “ماذا حدث؟”، بل صحافة تتساءل بعمق: “كيف نعيش مع ما حدث؟ وكيف نبني المستقبل بعده؟” صحافة لا تخشى الحقيقة، لكنها تجيد تقديمها بحس مسؤول. لا تدّعي الحياد الكامل، لكنها تلتزم بمبادئ العدالة والموضوعية. صحافة ترى في مهنتها رسالة، وفي هذه الرسالة مسؤولية وطنية وإنسانية.
بكلمة واحدة: نحن بحاجة إلى صحافة تُساهم فعلياً، في صنع السلام، لا تقتصر على تغطيته فقط.