أدب

عندما لا ترسم الفنانة.. بل تتحدث

يونيو 17, 2025

عندما لا ترسم الفنانة.. بل تتحدث

في غرفة صغيرة بأحد أحياء مدينة بنّش في شمال إدلب، حيث تتداخل أصوات الحصار والقصف مع صدى الحياة اليومية المكسورة، هناك ترسم يافا دياب، الفنانة التشكيلية الشابة، قصة سوريا بألوانها ودموعها، ليست مجرد رسامة تحرك ريشة على القماش، بل راوية تنقل من خلال لوحاتها ذاكرة شعب بأكمله، ذاكرة النزوح والدمار، الألم والحنين، القهر والصمود.



يافا دياب، فلسطينية الأصل وسورية المولد عام 1998، ليست فنانة عادية، بريشتها توثق مشاهد من الثورة السورية، من المعتقلين الذين عانوا في الزنازين، من القصف الذي هدم بيوتاً وأحلاماً، ومن معاناة الفلسطينيين الذين ما زالوا يحملون في أعماقهم جرحاً لا يندمل، لا تجد لوحاتها طريقها إلى المعارض العالمية من فراغ، بل عبر حكايات إنسانية حقيقية تلامس وجدان كل من يراها.



لوحة “عين الثورة” واحدة من أشهر أعمالها، وهي لوحة ليست تقليدية، بل تعبير بصري يحكي قصة وطن بأكمله، العين تلك النافذة إلى الروح، تضم وجوه شهداء سقطوا على يد النظام، وصورة المنشد الشهيد عبد الباسط الساروت الذي أصبح رمزاً للمقاومة، وهو يرفع يده إشارة صمود وسط الحشود التي لا تعرف الاستسلام، اللون الأخضر في اللوحة ليس فقط رمزاً للثورة، بل هو كذلك إشارة إلى الزيتون الذي يرمز إلى مدينة إدلب، حيث تنمو الحياة رغم القسوة.



من خلال هذه اللوحات، لا تنقل يافا فقط الألم، بل تزرع بذور الأمل في نفوس من يراها، فهي تؤمن بأن الفن يمكن أن يكون عزاءً للمتعبين وملجأ لمن فقدوا الطريق، وأداة قوية لكسر الصمت في وجه الظلم، عبّرت يافا عن قناعتها بأن الصدق مع الذات هو الأساس في أي عمل فني ناجح، وأن التصالح مع ما يحمله الإنسان في داخله من مشاعر وأفكار هو ما يجعل الرسالة تصل بصدق إلى المتلقي، هذا الموقف يعكس روحاً حرّة لم تتأثر بالضغوط السياسية أو الاجتماعية، بل صاغت فناً خاصاً بها يعكس تجربتها الشخصية وتجارب وطنها.



ولا يمكننا أن نتحدث عن يافا دياب دون الإشارة إلى رحلتها الشخصية المليئة بالتقلبات، فقد عاشت تجربة عاطفية استمرت ثماني سنوات، كانت مليئة بالمعاناة والألم، لكنها تعلمت منها كيف تتحرر من قيود الماضي، وترفض أن تكون أسيرة لما فقدته، هذا التحرر النفسي انعكس في أعمالها، التي تحمل في طياتها قوة وصبراً دفيناً، هذه القوة والصدق، مع كل ألمها الشخصي، جعلت من فنها أكثر من مجرد لوحات تزين الجدران. بل أصبحت تعبيراً عن صوت سوريا، عن روح شعب لم يستسلم رغم الحرب والدمار، بريشتها تعيد يافا بناء الروح المحطمة، وتمنحها فرصة للنهوض من جديد، وفي زمن يختفي فيه الكثير من الأصوات، يصبح صوت الفنانة يافا دياب أكثر وضوحاً وإلحاحاً، فنها لا يخاطب فقط العين، بل يخاطب القلب والوجدان، يذكرنا بأن سوريا ليست مجرد خراب وحصار، بل أرض تحمل بين جنباتها قصصاً من الألم والأمل والتحدي.



الفن عند يافا ليس ترفاً أو ترفيهاً، بل هو ضرورة للبقاء، وعزاء لمن فقد كل شيء، ورسالة لمن لا يملك صوتاً يسمعه أحد، إنها تذكرنا بأن الفن يمكن أن يكون سلاحاً، ليس فقط في القتال، بل في مقاومة النسيان والظلم، كما أن لوحاتها تحمل في طياتها مطالب شعب كامل، لا يمكن تجاهلها أو إهمالها، فهي تمثل حكاية كل طفل فقد عائلته، وكل امرأة تشردت من بيتها، وكل شاب سقط في سبيل الحرية، يافا لا ترسم فقط وجوهاً وألواناً، بل ترسم وجعاً إنسانياً عميقاً، هذا الفن الذي تقدمه يافا دياب يفتح نافذة على الحقيقة السورية المرة، لكنه في الوقت نفسه يغرس بذور الأمل في نفوسنا، لأنه رغم كل ما حدث ويحدث، يبقى هناك ضوء صغير يشرق من داخل العتمة، وهو ضوء الفن الحقيقي الذي لا ينطفئ، تجربة يافا دياب تعلمنا أن الإنسان قادر على تحويل جرحه إلى جمال، وألمه إلى قوة، وأن الفن الحقيقي هو ذلك الذي لا يخاف أن يصرخ بالحقيقة، مهما كانت مؤلمة.



في النهاية، تبقى يافا دياب رمزاً لفنانة تؤمن بأن الكلمات قد تعجز عن نقل الحقيقة، لكن بريشتها تستطيع أن تتحدث بصمت الألوان، فتقول ما لا يُقال، وتحكي ما لا يُنسى.

شارك

مقالات ذات صلة