آراء
لإيران — وخصوصًا نظام ولاية الفقيه — في ذاكرة العرب أثر مزدوج. فمن الناحية الإنسانية، والحقوقية، والعربية، والنسوية، فهو نظام يصعب التعاطف معه بأدنى درجة. فتحته سطوته دماؤنا سالت، وأطفالنا يُتّموا، ومدنيونا عُذّبوا. وفي نفس الوقت، كانت إيران سندًا للمقاومة وللمستضعفين في جنوب لبنان وفي غزة حين تخلّى عنهم العالم أجمع.
في سوريا، كانت طهران لاعبًا محوريًا في دعم نظام قصف شعبه بالبراميل المتفجرة، وجوّع نساءه وأطفاله حصارا، وأهلكهم ذلا وإهانة في غياهب صيدنايا. في العراق، قدّمت الدعم لفصائل مارست القتل على أساس الهوية، وفرضت سطوة دينية بالسلاح، وأباحت دم من خالفها. وفي اليمن، رغم تعقيدات الحرب وحصار التحالف، ارتكب الحوثيون — بدعم إيراني — انتهاكات جسيمة بحق المدنيين.
أما داخليًا، فيُعد النظام الإيراني من أكثر الأنظمة قمعًا في المنطقة. فقد قتل النساء والمتضامنين معهنّ بالمئات، وقنص أعين المحتجات والمحتجين بعدما قتل مهسا أميني، لا لشيء سوى لجعل ارتداء الحجاب قهرًا، وأعدم قاصرات بتهم “الشرف” مثل عاطفة رجبی سهاله ومنى حيدر. هذا الإرث الدموي يدفعنا إلى كراهية النظام، والرغبة في سقوطه، بل وربما سقوط الدولة التي تقف وراءه.
ضحايا هذه الأنظمة — إخوتنا — لا ينبغي أن تُهمّش آلامهم تحت شعارات مثل “المعركة الكبرى” أو “محور المقاومة”. ومن حق السوري والعراقي واليمني أن يرفضوا تمجيد جلّاديهم، وأن يفرحوا لتجرّعهم من الكأس ذاته، دون أن يُتّهموا بالخيانة. ولنذكر أن نظام سوريا البائد، الذي لا يستطيع أن يبكيه أحد، ظل يذيق شعبه أمر عذاب باسم المعركة الكبرى، حتى سقط سقوطا جعل إسرائيل تخترقه جوا وبراا وتدكه دفاعاته دكانا دون أدنى ردع أو حتى بيان.
لكن في المقابل — وهنا تكمن المأساة الأخلاقية والسياسية — لا يمكن تجاهل أن إيران، بنظامها ذاته، كانت تقريبًا الدولة الوحيدة التي قدّمت دعمًا عسكريًا وسياسيًا مباشرًا لمقاومة الاحتلال والإبادة الإسرائيلية. في جنوب لبنان، دعمت حزب الله حتى تحرر الجنوب عام 2000، في نصر نادر للعرب. وفي عام 2006، ساعدت في صمود بيروت أمام العدوان الإسرائيلي. وفي غزة، بينما صمت العالم وتواطأت الأنظمة، أطلقت الفصائل المدعومة من طهران — من حزب الله إلى الحوثيين — صواريخ وطائرات مسيّرة على إسرائيل، في محاولة كسر آلة الإبادة. وقد عانى المدنيون في جنوب لبنان، وفقدوا أطفالهم ونساءهم ورجالهم وأطرافهم وأعينهم، في قصف تل أبيب وحملة “البيجر” الإجرامية.
وفي هذا السياق، لا يمكن إلا أن نثمّن الضربات الموجّهة لتل أبيب، التي لم تأت في سياق مختلف عن سياق حرب الإبادة على غزة، والتي ضرورة تحمل في طياتها رسالة بأن دماء أطفال غزة ونساؤها ليست بلا ثمن. وأن إسرائيل ليست ماردا لا يمس في المنطقة، ويريق من دماء أبنائنا وبناتنا وأخواتنا في فلسطين كما يريد، دون أن يحاسبه محاسب.
كما أن لإيران دورًا لا يمكن تجاهله في التصدي لتنظيم داعش، إذ كان الحرس الثوري وقوات الحشد الشعبي التي تدعمه حاسمين في معارك الموصل وتكريت وسنجار، بل وساهموا في حماية بعض التجمعات المسيحية في سهل نينوى من الزوال. وساهموا أيضا في حماية كنائس ومناطق مسيحية في سوريا أيضًا من تنظيم داعش.
على الصعيد الجيوسياسي، وتوازن القوى، وبعد سقوط بغداد، تظل إيران من آخر الدول ذات الوزن الحضاري والتاريخي والجيوسياسي في المنطقة. لديها جيش يُعتدّ به، وشبكة نفوذ تتجاوز حدودها. من يوازيها في هذا الثقل هما مصر وتركيا، اللتان بدأت إسرائيل بالفعل بتحريض ضدهما كما فعلت مع بغداد سابقًا — راجع وثيقة “A Clean Break” التي وضعها معهد دراسات استراتيجي إسرائيلي عام 1996، والتي دعت صراحة لإسقاط صدام حسين كنقطة بداية لإعادة تشكيل المنطقة. وحين سقط صدام، سقطت بغداد، ومات إثر السقوط أكثر من مليون عراقي، ونشأ تنظيم داعش، وعم الفساد.
اليوم، نخشى من تكرر المشهد. ولكن مع تشكيلات جديدة وتحالفات غير مألوفة.
إسرائيل لم تعد وحدها في الميدان، بل تستقدم حلفاء جدد كحكومة مودي الهندوسية المتطرفة، المعروفة بعدائها الصريح للمسلمين. وعلى صعيد آخر، يبدو موزونا جدًا- تقوم باكستان— رغم التوترات التاريخية الطائفية مع إيران — استعدادًا لدعم إيران في معركتها. هذا مؤشّر على دخولنا أرضًا جديدة ومجهولة التحالفات، قد تحمل معها زلازل سياسية مدمّرة للمنطقة.
والولايات المتحدة تدرس مدى انخراطها مباشرة في الحرب، توازيًا مع انقسام الدول الأوروبية في اندفاعها في الحرب مباشرة مع إيران، وتعهدات الصين وروسيا المتباينة والتي تزداد مع الصين، بينما تحاول روسيا الحفاظ على توازنها بين إيران وإسرائيل، دون أن تخسر أوراقها في أي من الجبهتين.
في ظل هذا كله، فإن فرح البعض بسقوط إيران، أو حتى إضعافها، قد يكون قصير النظر. فإن سقطت طهران، هل يضمن ذلك تخلص بلادنا العربية من خطر الخصم الإقليمي التاريخي، الذي تعايشنا معه تارة، وحاربناه تارة؟ هل يضمن بسلامة “محور السنة” والتخلص من “المد الشيعي” كما تتمنى تلك الدول؟
لا يبدو معقولًا أن تسلم إسرائيل — وأمريكا معها — القوة للبلاد العربية والسنية، مهما حلمت. فإن سقطت إيران، فسيُستبدل الفراغ الإيراني بهيمنة أوسع إسرائيلية — حتى ربما نرى القواعد الأمريكية تُستكمل أو تُستبدل بقواعد إسرائيلية على أراضينا، ونرى دولنا تتعامل في المستقبل بالشيكل إضافة، أو حتى عوضًا عن الدولار، حينما نحتاج للعملة الصعبة… كما تفعل فلسطين — أختنا العربية التي لا عملة لها.
النظام الإيراني قمعي ومؤذٍ لمدى بعيد جدًا في الداخل والخارج، نعم. ولكن سقوطه بحرب إسرائيلية، ومعها الدول الأمريكية والأوروبية، قد يؤدي لزلزلة منطقتنا — بل والعالم بأسره — بدرجة لم نكن نتخيلها.
لا يمكننا أن نطلب من أحد — أو حتى من أنفسنا — الوقوف مع النظام، ولا تبرير انتهاكاته. ولكن يمكننا إدراك خطورة ما يجري ومحاولة بلورة موقف أخلاقي وسياسي متوازن. وفي ذات الوقت، يمكننا أن نميز بين إيران، شعبا ودولة وتاريخا، وهذا النظام الذي يحكمها. كما يمكننا أن نتبرأ من نظم دولنا القمعية، ونصطف مع دولنا-وليس مع أنظمتها- ضد أعدائنا، متى لازم الأمر.
لعلنا نستطيع أن نكون أوفياء لدمائنا جميعًا، من دون أن نقف في صف أعداء شعوبنا. أن نرفض الطغيان والتأجيج الطائفي، وأن نحافظ في ذات الوقت على صوت مقاوم للهيمنة الإسرائيلية، من دون تبرير أي ظلم آخر، حتى ولو كان مغطّى براية تحرير القدس.
حفظ الله بلادنا وشعوبنا. حفظ الله فلسطين. حفظ الله غزة.