آراء
في صباحٍ خافتٍ من أيام النزوح، وبينما كانت خيام النازحين تحاول التماسك أمام رياح الموت، ارتقت أسماء، ابنة الأربعين ربيعاً، شهيدة. هي ابنة أختي، وأمٌّ لخمسة أبناء — ثلاث أولاد وابنتين — اختار الله أسماء لتكون من الشهداء. ويروي زوجها – وقد أثقله الفقد – تفاصيل اللحظة الأخيرة التي انطبعت في ذاكرته كأنها نقش على حجر. كنا معاً في خيمة النزوح، كنت اقرأ ما تيسر من الذكر الحكيم من كتاب الله، “سورة الكهف”، بينما كانت أسماء – أم عز – لا تبعد عني إلا مقدار ذراع، حيث اعتادت أن تهيئ أمور الخدمة مبكراً، تحاول أن تحاكي في الخيمة روح البيت الذي سُلب منها تحت هدير الطائرات وضربات المدفعية. وعلى غير عادتها، استلقت على فرشتها في صمت. لم أرها من قبل تطلب راحة، بدا الأمر غريباً. لكنه كان لحظةً استثنائية، لحظةٌ هبت فيها نفحات من رحمة الله، نسائم إيمانية لم نكن نراها، لكنها كانت تحملها من عالم الفقد إلى عالم الخلود. إنه برتوكول الشهادة، لا يدرك سره إلا من اصطفاهم الله.
وفجأة، دوى انفجار صاروخ غادر سقط بجوار الخيمة. فاهتزت الأرض تحت أقدامنا، وارتجّت الخيمة حتى كادت تنخلع بمن فيها. حول الصباح الخافت إلى عاصفة من الغبار والدخان. فهرعت اسابق الزمن، أبحث بين الركام عن حياةٍ تختنق تحت الأنقاض، عن جريح يحتاج يداً، عن طفلٍ لم تكتمل صرخته، عن أمٍّ تنتظر من ينقذها أو يودعها. ذلك الفعل، تلك الهَبّة، ليست بطولة فردية، بل طقسٌ يومي في غزة. هنا في غزة، لا وقت للذهول، الكل يتحرك: شباب، شيوخ، نساء… أجسادهم قد تكون نحيلة من الجوع أو الإنهاك، لكن أرواحهم جسدٌ واحد حين يُنادَى عليهم. خرج أبو العز من بين الغبار والدخان، يركض في اتجاه الخطر لا مبتعداً عنه. لم يفكر في نفسه، لم يحمله قلبه على الالتفات حتى… ترك زوجته في الخيمة، مطمئناً أنها ستلحق به. فهو يعرفها جيداً — أسماء، أم العز — تلك التي كانت دوماً تسبق الخطر بفطنتها، بحاستها السادسة. لكن ما لم يعلمه أن تلك اللحظة، كانت موعدها مع الرحيل… وأن هذه المرة، لن تلحق به.
ويستطرد الزوج المكلوم ويقول وبعد أن هدأ الصخب، تفقدت من حولي من الرجال والنسوة ولم أجد ام العز بيننا وهي التي كانت دائما تسبقني في كثير من المشاهد فعدت مسرعاً إلى الخيمة، وجدت أسماء على حالها… كما تركتها، مستلقية بهدوء على فراشها، كأن شيئاً لم يكن. ناديتها: “أسماء… اصحي!”، كررت النداء، اقتربت منها، جلست بجوارها… مددت يدي إليها. فإذا بجبهتها تنزف قليلاً، مجرد جُرح صغير لا يوحي بشيء وكأنه خرم إبرة. حركت رأسها برفق، فكانت الفاجعة… رأسها كان يسكن على وسادة غارقة في الدم، وجمجمتها من الخلف مهشّمة، كأنما اخترقتها شظية صاروخ، تسللت بهدوء، دون صوت، دون صراخ، دون أن تثير فزعاً أو صراخاً. حتى أنا لم أشعر بشيء يوحى أن الخيمة ومن فيها قد أصيبت، فغادرتها نعم على عجل أريد أن اسابق اسماء فهي التي لطالما سبقتي لإغاثة من يستغيث. لكنها، هذه المرة، سبقَتني إلى السماء.
رحلت أسماء كما يعيش الطيبون… بهدوء دون ضجيج، وكأنها اكتفت من الحياة بما يكفي لتكون من المختارين. اختارها الله من بين الخلق لتكون ممن قال فيهم: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}. وأن ما شاهده زوجها قبل الانفجار من طقوس النوم هو ضمن برتوكول هيأه الله بإتقان محكم. فقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: “ما يجد الشهيد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من مسّ القرصة”. رحلت أسماء دون أن تعاني سكرات الموت، كأنها نامت نوماً خفيفاً ولم تستيقظ منه. سلامٌ على أسماء… سلامٌ على شهيدة العيد، وكل الأرواح الطاهرة التي ارتقت في صمت، وكتبت بدمها أنبل حكاية.
رحلت أم العز بهدوء، لكن موتها لم يكن صمتاً بلا معنى، بل أرسلت برسائل صامتة، ثاقبة، تتخطى الكلمات، لتُشعل ضمائرنا وتذكرنا بحقيقةٍ مرة. فجاءت الرسالة الأولى أن الصاروخ لم يستهدف موقعاً عسكرياً. لم يكن الهدف إلا نقطة شحن للأجهزة الخلوية والبطاريات المنزلية، مكان بسيط بين خيام النازحين، يستخدمه الأبرياء للحفاظ على اتصالهم بالحياة، لكنها كانت مصيدة موت، مصيدة رحلت من خلالها أم العز وأبناء الأرض الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يبحثون عن حياة، يحاولون أن يكونوا بشراً رغم كل ما يجري حولهم. ويبقى السؤال القاسي الذي يواجهنا: متى يدرك من هم في دائرة التعقّب أن هذه الأجهزة، في هذه المناطق مصائدٌ للموت؟ لكننا لا نريد أن نسترسل في اللوم، ولا نريد أن ندخل في سجالات تعجز عن إحياء من رحلوا، بل نوجه الرسالة لمن تسببوا في هذه المجازر، بكل وضوح: تحمّلوا وزرها أمام الله، الذي لا يغفل، ولا ينسى، ولا يسامح. تُسجّل هذه المآسي في سجلات السماء، حتى وإن اسكّتتها الدنيا، فالسماء لا تنسى، ولا يغيب عنها صوت كل دمعة، وكل نحيب، وكل شهيد رحل في صمت.
سلامٌ على أسماء في عليين.. سلامٌ على شهيدة العيد، وعلى كل الأرواح التي ارتفعت إلى ربها مظلومة، طاهرة، هادئة، تشتكي لمن لا يظلم أحداً. ولترسل رسالتها الثانية رغم غيابها وتقول: أن الوجع في غزة لا يتوقف عند لحظة القصف، بل يمتد ويتعمق في تفاصيل العجز والفقد في منظومتنا الصحية بغزة. فالمنظومة الصحية في القطاع المنهك تقف على أطراف أنفاسها، تعاني نقصاً حاداً في الأدوية والمعدات والأطقم الطبية، حتى بات إنقاذ الجرحى معجزة، لا تُبنى على الكفاءة بل على الحظ! لقد رحلت أسماء، وآلافاً غيرها – نعم، آلاف – استُشهدوا وكان بالإمكان إنقاذهم، لو توفر لهم سرير، أو جهاز أكسجين، أو مسعف في الوقت المناسب. إن استشهادها ليس مجرد قضاء وقدر، بل شهادة حية على انهيار منظومة كان يُفترض بها أن تحمي الحياة، لكنها أصبحت عاجزة أمام زخم الموت المتكرر، حيث تصبح الحياة بيد من يُمليها الموت.
إن مأساة الشهيدة أسماء ليست فردية، بل هي صوتٌ من بين آلاف الأصوات التي لا تصرخ. لكنها تقول لنا جميعاً، في رسالة جديدة موجعة: لا تتركوا غزة تموت بصمت، ولا تقبلوا أن يكون العجز هو القاعدة. فماذا لو كانت أسماء أختك، زوجتك، ابنتك؟ هل كنا سنقبل بأن تكون الخيمة قبراً؟ وأن تتحول وسائل البقاء إلى سببٍ للفناء؟ ففي مكانٍ ما من هذا العالم، يولد الأطفال في غرف عمليات معقمة، مليئة بالأمل والحياة، بينما هنا، يُدفنون في أكياس بيضاء وربما حتى بدون أكفان. فأسماء ومن هم مثلها لا يطالبون بأكثر من صوت حقٍّ يخرج في زمن الضجيج الكاذب، وعدسة صادقة ترصد الحقيقة، ومحكمة تجرؤ على قول كلمة عدل واحدة في وجه هذا الجنون.
كل عام وانتي بخير أيتها الشهيدة الطاهرة، فرسالتك الرابعة، رسالة إيمان وصبر وصلت إلى والديكِ، وقد تمّ ما كتب الله وقدّره بحكمته. كأن الله قد أمهلكِ حتى تبلغي سنَّ الأربعين، تلك السنّ التي تُعدّ ذروة النضج والقوة، حيث يُكمل الإنسان عقله، ويزداد إيمانه، فيشكر الله على نعمه، ويُجزل الشكر لوالديه على تربيتهما الصالحة، ويُخلص الدعاء لذريته بأن يرزقهم الصلاح والخير، ويشهد الله سبحانه وتعالى بتوبته وإسلامه. ولدت أسماء في الثامن من يونيو عام 1985، ورحلت إلى جوار ربها في العاشر من نفس الشهر، بعد أن حققت أدقّ معاني الدعاء الذي علّمتنا إياه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. دُعاء تضمن شكر النعم، وبر الوالدين، والإصلاح في الذرية، والصدق في التوبة، والاعتراف بوحدانية الله. لقد كانت لحظات خالصة لله، أسماء تركت لنا درساً في الإخلاص والتوحيد، وصبراً على الأقدار، وإيماناً عميقاً بوعد الله للمتقين. انتقلت فيها أسماء من دار الفناء إلى دار البقاء، تاركة وراءها رسالة حياة، وصبراً، وأملاً لا يموت.
ما أجمل الموت حين يخاطب الشهداء، فهو رسالة خالدة تنقلها الشهيدة أسماء، كأيقونة من أيقونات الحق التي تسجلها كتب التاريخ منذ آدم عليه السلام حتى قيام الساعة. أرسلت أسماء، رسالتها الخامسة لأهل غزة، تقول فيها: لا تخافوا من لحظة القصف والموت، فقد عشتها وأدركت حقيقتها. لم يكن الألم أعظم من وخزة أو كشكة دبوس. رأيت نفسي أُحمل على سرير، مرفوع على أجنحة طير تحميني، فأحلّق صعوداً في الفضاء، أغزو السماوات العلا، وأسمع صوتاً يدعوني: “لقد اجتزت الامتحان، ونلت الشهادة يا أسماء”. وها نحن نكتب اسمك في الملأ الأعلى، بين الشهداء الأبرار، الفرحين بما آتاهم ربهم، يستبشرون بمن خلفهم من الأحياء، ويحملون رسالتك المضيئة في قلوبهم.
رحلت أسماء، لكنها لم تترك فراغاً… بل تركت أثراً، ورسالة، ونوراً في عيون والديها وأبنائها الخمسة. فصوتها لا يزال بيننا، لا يُسمع بالأذن بل يُحسّ بالقلب. علمتنا أن الشهادة ليست موتاً، بل ولادة جديدة في سجل الخالدين. علمتنا أن الخوف لا يليق بمن توكل على الله، وأن الوجع يمكن أن يكون طريقاً إلى الخلود. وغزة… التي ودعت أسماء، لا تودّع رسالتها. ستبقى خيمتها شاهدة على أن الموت لا يكسر الكرامة، وأن امرأة نازحة تحمل في قلبها خمس أعياد لأبنائها، تستطيع أن تهزم قذيفة بصبرها، وأن تنتصر بدمها.
سلامٌ عليكِ يا أسماء… سلامٌ على شهيدة الأربعين، التي أوفت، ودعت، وشهدت، فرُفعت. سلامٌ على قلبك النقي، وعلى روحك الطاهرة، وعلى كلماتك التي لم تُنطق، لكنها سُطّرت في ضمير كل من بقي. يا رب، اجعل رحيلها برداً وسلاماً على والديها، صبّر قلبيهما، واغمرهما برحمتك كما غمرتهما هي بدعائها وهما لا يعلمان. اللهم بارك في ذريتها، احفظهم بعينك التي لا تنام، وكن لهم أباً وأماً وسنداً، وارزقهم السكينة كما رزقت أمهم الشهادة.
اللهم اجعل عزاءهم صبراً، وحزنهم طُهراً، وأيامهم نوراً من نورك، وهبهم القوة ليتحدثوا باسمها، ويحملوا رسالتها كما يليق بمن حملت عنهم وجع الدنيا وصعدت إليك. فلتكن أسماء ومن ساروا على دربها شعلة نور تلهمنا الصبر والإيمان، ورافعة دعائنا أن يرزقنا الله حسن الخاتمة، وأن يجعلنا من الذين إذا بلغوا أشدهم، شكروا ربهم وأصلحوا ذرياتهم، وتابوا إليه بصدق وإخلاص.