سياسة
في الدولة المتوحّشة، أو المزرعة التي استعبد النظام المخلوع فيها السوريين وجعلهم رقاً تحت وطأة البسطار العسكري الذي صار رمزاً يعبد من دون الله، وعوّد الناس على قَبول الذّل وامتهان الكرامة البشرية عند تأدية “خدمة العلم”، وسماع سيل من الشتائم اليومية التي تستهدف الذات الإلهية بالدرجة الأولى، إلى فرض قيود صارمة على أداء فريضة الصلاة في القطع العسكرية، وبالتالي تحويل المؤسسة العسكرية لمصدر تهديد وأداة قمع تستهدف مكوّن أساسي في المجتمع السوري، وكانت هذه الخطوات مجتمعة تهندس خطّة اغتيال واضحة لمفهوم أو معنى المؤسسة وتعزّز حالة الانقسام الطائفي وتنسف “خدمة العلم” ليحل مكانها خدمة الأشخاص، والتمييز في التعيينات والترقيات على أساس طائفي بعيداً كل البعد عن الأهداف الوطنية النبيلة، وما تبعها من مجازر ضد المجتمع المدني في جسر الشغور وحماة (1980 – 1982م) في عهد الدكتاتور الأول، لبناء الخوف والرعب واستحضاره في قلوب الناس عند رؤية الزي العسكري وانهيار الثقة بوجود جيش وطني يفرض الود قبل الأمن والاستقرار.
رغم كل الممارسات المذكورة، وحتى عام 2011 عند اندلاع الثورة السورية، حاول السوريون استمالة الجيش، وعزل المخلصين منهم عمّن في قلبه مرض، يردد الشعب هتافات “يد واحدة.. يد واحدة.. الشعب والجيش.. يد واحدة” يحرص السوريون على حقن الدماء ويحرص الجيش على سفكها، بعد أن زجّه النظام في مواجهة مفتوحة مع الشعب شهدت انتهاكات وجرائم حرب، دفعت نحو الانشقاقات وتشكيل مجموعات محلية مسلّحة من أفراد الجيش المنشقين والثائرين المتطوعين للدفاع عن المدنيين، وما تبقّى من الجيش اختار الحلول القمعية الدموية، شكلت هذه المرحلة صدمة جديدة للشعب السوري امتدادها لما سبق من الصدمات، وتوجّهت الثورة نحو التسليح وبدأت تتبلور ملامح الجيش السوري الحر، وبروز المقاتل الفعلي الذي تكوّنت عنده العقيدة العسكرية بالتقادم دون وجود توجيه معنوي أو هيكلية تنظيمية وتراتبية في القيادة، وكانت عقيدته عفوية قائمة بالدرجة الأولى على التضحية والدفاع عن الأرض والأهل، وإن ظهرت فروق فردية أفرزتها الحالة الفصائلية عندما مرّوا بها جميعاً وستتلاشى بالتقادم مع إعادة التأهيل تحت سقف الدولة، ويكاد لا يخلو جسد المقاتل في الجيش السوري الجديد من مواضع ندبات شاهدة على ما سلف من سنوات متخمة بالتضحيات، تثبت الوفاء للوطن وتنفض عنه الخيانة والغدر والرذيلة التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بجيش النظام المخلوع.
لا يوجد منهجية نابعة من فراغ، فالدول تستند إلى تجارب سابقة لرسم رؤيتها المستقبلية، وأضرب مثالاً واقعياً من الحالة السورية الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام والكلية الحربية التي انبثقت عنه في إدلب وقدمت تدريبات عملية ونظرية وأجرت امتحانات للضباط المنتسبين وهذه الجزئية مؤشر على سويّة وعقلية وزارة الدفاع التي تتبلور شيئاً فشيئاً، وهذا لا يلغي ضرورة الاطّلاع والبحث في تجارب الدول بإنشاء المؤسسات العسكرية في حالة ما بعد الثورات والاستناد على الحلفاء لتقديم الدعم المطلوب، وبالعودة إلى العقيدة العسكرية للمقاتل السوري، يمكن تلخيصها بمجموعة من البنود، في مقدمتها التضحية والدفاع عن الأهل والوطن، والسعي لرفع المستوى العسكري والتحصيل العلمي، والتمسك بالأخلاق الحميدة وحسن السلوك ويزيد عليها بعد سقوط النظام والانتقال إلى عقليّة الدولة التزام المقاتل بصون المبادئ الدستورية التي سيعلن عنها في سوريا الجديدة واحترام تسلسل الرّتب العسكرية وعدم تجاوز الصلاحيات الممنوحة، ومراعاة حقوق الإنسان، ويبنى على آخر بند ورش عمل وتدريبات للضباط في وزارة الدفاع، تتدرّج لاحقاً لتغطية كل أفراد الجيش بالتعاون مع حقوقيين وقانونيين في خطوة تجمع بين التأهيل والاستثمار السياسي أمام العدسات، وتحت المجاهر.
إنّ أهم ما يميّز الجيش السوري الجديد خوض معارك حقيقية مكثّفة، وتدريبات عمليّة فعليّة في مواجهة 3 جيوش ومرتزقة ومليشيات عابرة للحدود، دون الاكتفاء بتدريبات المحاكاة، والقدرة على هندسة الأنفاق انطلاقاً من إمكانات متواضعة، والشروع في التصنيع المحلي والعمل على تطوير نماذج حديثة من مسيّرات شاهين التي أحدثت فرقاً كبيراً في معركة التحرير، وإلغاء الخدمة الإلزامية التي تنعكس إيجاباً بوجود مقاتل مخلص، قراره بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية طواعية، نابع من الشعور بالمسؤولية دون إكراه.
بقدر الخوف والرعب، وعقود القمع التي مرّت على السوريين، تبرز الحاجة لأسس وطنية تبنى عليها العلاقة بين الجيش والمجتمع، وفي تجربة الجناح العسكري، رغم اتّخاذ قيادته إجراءات الأمن والسلامة التي أبعدته إلى خارج مراكز المدن، كان هناك حرص واضح على وجود علاقة صحية مع المجتمع، مثل التودّد للناس وتوزيع الحلويات والألعاب على الأطفال في الأعياد والمناسبات، لخلق حالة ارتباط وتعاطف على المدى الطويل، والاستجابة الإنسانية في حالات الطوارئ والكوارث مثل زلزال 6 شباط، حيث وُضعت الآليات الثقيلة تحت تصرف غرفة العمليات واستنفرت الألوية لتقديم المساعدة في رفع الأنقاض والمشاركة بحملات التبرع بالدم، ومن هنا تستلهم القيادة ضرورة إشراك الجيش في الحملات الوطنية، والتفاعل مع المناسبات الرسمية مثل زيارة القيادات العسكرية لمعرض إدلب للكتاب لتجنيب الثورة حالة عزلة بين المجتمع والعسكر، وقد آتَت هذه المنهجية أُكُلَهَا يوم عملية ردع العدوان في المشاهد المرئية التي بثتها وسائل الإعلام عند دخول حلب، وأظهرت مدى الانضباط والحفاظ على الممتلكات العامّة والخاصّة وتفتيش المنازل مع الاعتذار للأهالي عن أي إزعاج غير مقصود وكانت رسالة طمأنة لباقي المحافظات قبل تحريرها، تعكس حالة التهذيب التي وصل لها المقاتل.
بعد سقوط النظام، أولت وزارة الدفاع هذه التفاصيل وما يشبهها أهمية كبيرة، رغم التحديات والمخاطر والانشغال بملفات أكثر أهمية، سارعت المروحيات لإلقاء الورود على احتفالات الثائرين المنتصرين، وقد تصبح هذه اللفتة بروتوكولاً رسمياً سنوياً في اليوم الوطني السوري بعد الإشادة بها ورصد تفاعل إيجابي معها، ودخول قوات النخبة باستعراض عسكري على غرار الاستعراض في ساحات إدلب بذكرى الثورة السورية التي شكّلت فرصة تجمع بين نواة المؤسسة العسكرية وحاضنتها، كما شاركت المروحيات في وقت لاحق مع الدفاع المدني بعمليات إطفاء الحرائق في الساحل السوري، وتوّجت كل ذلك بالإحسان للمحاربين القدامى الذين قدّموا شيئاً منهم خلال الثورة ليحيا الناس، ورفدتهم ضمن قوائم “منحة الحج” على نفقة الدولة، وقد يكون لهم مستقبلاً امتيازات أوسع، وكل ذلك لا ينفي ضرورة محو الأفكار والمفاهيم المغلوطة من ذاكرة السوريين عبر الترويج لصورة جديدة في الإعلام الوطني ومناهج التعليم.
مهما كانت الجهود المقدّمة، لا يوجد نتائج سريعة في عملية البناء وكل شيء تراكمي مرهون بعامل الزمن، لكن يحسب في هذه الحالة المؤشرات الإيجابية التي يُبنى عليها والأرضية الصلبة التي تعطي انطلاقة جيّدة ودفعة نحو الأمام، من بناء الجندي الذي يثق بنفسه وقدراته ويعتز بالانتماء الوطني السوري، وصولاً إلى حالة تآلف مع المجتمع، تضمن إلغاء ثقافة الخوف من الرتب والخرطوش، دون هدر هيبة وسيادة رمز من رموز الدولة.