أدب

الخاص تعبيراً عن العام.. في أهمية تمرير ذاكرة الشهداء والمفقودين

يونيو 12, 2025

الخاص تعبيراً عن العام.. في أهمية تمرير ذاكرة الشهداء والمفقودين

“تزدحمُ السماء، في بلادٍ وهبَتْ كلّ نجماتها”.


 التفاتةٌ سريعة إلى الأمام كانت كفيلةً لتنبيهنا أننا نظرنا طويلاً للوراء. من هذه النقطة وفي الثامن من كانون الأول، شكّلت الصدمة خطّين يتباعدان بشكل صارخ، الأول يتّجه إلى الماضي بحثاً عن سردية جامعة مانعة، ناكئاً الجراح لتطبيبها بطريقة أصح، والآخر ينطلق كالسهم راسماً سردية البناء والأمل، والتجاوز. في ظروف طبيعية كان لهذين الخطّين أن يكونا أكثر اتّساقاً وموازنة، وتكميلاً لبعضهما. 



أمّا وهذه الحال، فقد كانا مثل حبلين، يشدّ كل واحد منهما باتجاه. يمزّقان أهالي الشهداء والمفقودين، العالقين في المنتصف، بين الماضي الذي لم يروِه أحدٌ كما يجب، ويغلقَ دفاتره. وبين القادم الذي ينأونَ عنه، لأن خطواته تعدّ خيانةً للذاكرة والجراح القديمة.



في وقت ينتظر فيه السوريون أن تأخذ العدالة مجراها بعد تشكيل هيئتي العدالة الانتقالية والمفقودين، فإن سؤال السردية يظلّ يلحّ عليهم إلى جانب العدالة، من سيروي القصة؟ وهل تتشوّه الصورة إذا تأخرنا أكثر؟ ولو سارت الأمور بشكل يضمن الحقّ في الاقتصاص، فهل يكفل القضاءُ الحقّ في التذكّر؟ الحقّ في أن يكون للشهداء والمعتقلين والمفقودين قصصهم وأسماؤهم وصورهم، حتى لا نكون قد خسرناهم مرّتين؟



  في السياقات المشابهة للثورة السورية، تنقسم السرديات من حيث الإحاطة والكلّيّة إلى ما يمكننا تسميته بالعام والخاص في خدمة البنية المتكاملة للحكاية. يتميز العام برؤيته بعينٍ علوية، وقدرته على القفز في الزمن، بطريقة إخبارية توثيقية علمية. تعتمدُ الأرقام والأحداث سعياً لرسم إطارٍ جامع للوحة الحكاية. أما الخاص فيعمل على تكثيف الحالة الكلية في قصة الفرد. بطريقة قصصية تسجيلية أدبية. تشتمل الاعتراف بإنسانية الضحايا وأسمائهم وصورهم وأحلامهم ومشاعرهم واستحضار قصصهم فُرادى. حيث يكون السرد الخاص عملاً يبثّ الروح في اللوحة الكلية.



في العادة تلاقي المشاريع السردية العامة انتشاراً بحكم طبيعتها التوثيقية، التي تمنح بيانات للباحثين والمستذكرين. في حالتنا، من المشاريع ما هو فرديّ الجهد مثل أرشيف الثورة السورية، ومؤسساتيّ الجهد مثل مشروع الذاكرة السورية. لكنّ السردية الخاصة، بسبب طبيعتها واعتمادها على أهالي الشهداء والمفقودين، ودوائرهم شديدة الضيق مثل وسائل التواصل، فإنها غالباً ما تحتاج جهوداً كبيرة للجمع والتركيب والصياغة والنشر وهذا ما أدعو إليه، حتى تخرج من الدوائر الضيقة إلى فضاءاتٍ أرحب، ونترك لنجماتنا التي حملناها بين أيدينا أعواماً، أن تأخذ مكانها في السماء. حيث تستحقّ أن تكون.



ربما يكون هذا العمل في أقلّ دوافعه، وفاءً للوصية الوحيدة الجامعة التي تتشاركها القصص كلّها. الكلمة الأخيرة، الوداع الأخير، الوصية الأخير. “تذكّرونا”. التي حملَت أمنياتهم بأن لا يُنسَوا. والأمل في أن تظلّ أسماؤهم تتردد على الألسنة، الأمل في أن يظلّوا بيننا بأوهن ما يمكن للمرء أن يحمله من أثر: الذاكرة. في درجاتٍ أخرى يمكن تلمّسها من الكتابة عنهم بأعيانهم، ننتزعُ من فكّي المجهول ما يمكننا استنقاذه، تحقيقاً لعدالةٍ خفية تحميهم من الموت مرّتين، والغرق في النسيان. ليس من أجلنا نحن بل من أجل الذين سيمرّون بعدنا.



على مستوى آخر، يقدّم هذا النسيج من القصص والحكايات، والأحلام والأفكار، صورةً كادت تغيبُ في أيامنا، عن مدى تنوّع الذين ضحّوا من أجل هذه الثورة باختلافاتهم الفكرية والاجتماعية والانتمائية، باختلاف خلفياتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم، وشكل البلاد التي حلموا بها. كما تكمن أهمية هذه الشهادات في تشكيل اللوحة الكاملة للحالة ذات التنوّع الشديد، وإمكان دراستها على مستويات علوم الإناسة في المستقبل كمادة جماعية الإنتاج، متّحدة الهدف، متنوعة المشارب.



من أهم خصائص هذه الجهود الفردية من التوثيق أن تكون عفوية وخالصة، بجهود شخصية ابتداء، نابعة من الإيمان بالقدرة على “التخليد”. وهذا التوثيق قد يتخذ أشكالاً عديدة باختلاف الظروف والسجلات، من الكتابة إلى الصناعة الصوتية والتصويرية. كما أنّ الأمل تالياً في توفّر جهود حكومية من قبل وزارتي الثقافة أولاً ثم الإعلام لاستيعاب هذا الإنتاج، والعمل على جمعه وتوزيعه. 



لا شكّ أن الحالة الأدبية بأشكالها ونقل الواقع إلى فضاءات اللغة الرحبة، مهمّ في إعادة التركيز حول الإنسان ومشاعره. وتكثيف العامّ في الخاصّ، لأن مستوى المتلقَّى من قصة الفرد الواحد قريبٌ من المتلقّي في مستواه كفردٍ واحدٍ أيضاً. هكذا تؤثر القصص في الناس أكثر من الكلّيّات الجامعة.



من أجل هذا كان من الجدير هنا أن نقف عند واحدة من أهم مساوئ نقل العام إلى الخاص. حتى أنني أكتفي بالاستفراد بها: يساهم التخصيص في كثير من الحالات في حجب القوى الفاعلة، وتشويش أصابع الاتهام، ونقل المشاعر من الرغبة في محاسبة الجُناة إلى التعاطف المحض فقط، التعاطف المفرط لدرجة القداسة. في هذا السياق ولأن الفرق بين الواديين شعرة فقط كان لزاماً أن نعيد الإنسان الفرد إلى محيطه في القصة، وأن نرويها حتى تشفى جراحنا، لأن نزع ثوب القداسة المتوهّمة هذا هو ما نستحقّه حتى تتحقق العدالة.



تساهمُ أسطَرة الشخوص في كثيرٍ من الحالات في تشكيل حالة من الواجب الفدائي. شكلٌ من أشكال رفع البشر من محيطهم، كأنهم لا ينتمون إلى هنا بل ينتمون إلى عالم الأسطورة، عالمٍ تكون المآسي فيه نتيجةً حتميةً محقّقةً كان عليهم احتمالها. فتكون النتيجة أن هذا ما جرى فحسب، لأن عليه أن يجري. نوعٌ من أنواع تحييد المجرم عن الصورة. هذا الفرق شديدُ الدقّة بين الحالتين، يستلزمُ توازناً بين التوثيق العام والخاص على صعيد، والمحاسبة على صعيدٍ آخر.



أخيراً. يظلّ الأمل قائماً في أن نضع شاهدة قبرٍ لكل شهيد، وأن لا نرى المجرمين يمشون بيننا في الشوارع. أملَنا في أن تطمئنّ القلوب وتُشفى الصدور يوماً ما. لكن حتى ذلك الحين، نقطع الوعد بأن لا ننسى، وأن نزرعكم نجماتٍ في سماء بلادنا. بلادنا التي حلمتم بها.

شارك

مقالات ذات صلة