التحول الرقمي في سوريا: حجر الأساس لإعادة الإعمار وبناء اقتصاد المستقبل
في عصرٍ لم تعد فيه الثروات تُقاس بما تحت الأرض بل بما تُمثّله البيانات في الفضاء الرقمي، يقف العالم اليوم على أعتاب ثورة رقمية حوّلت البيانات إلى “نفطٍ جديد”. بالنسبة لسوريا، الخارجة من صراعٍ طويلٍ ودمارٍ واسع، فإن التحول الرقمي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لإعادة الإعمار، وتحفيز الاقتصاد، واستعادة السيادة المؤسساتية.
ففي بلدٍ تضررت فيه البنية التحتية بشكل شبه كامل، يبرز التحول الرقمي اليوم أداة استراتيجية لإعادة الإعمار حيث يمكن للتقنيات الرقمية أن توفّر بدائل ذكية ورشيقة تقلل التكاليف وتسهم في إدارة الموارد بكفاءة من خلال رقمنة الخدمات والإجراءات الحكومية، ما يمكن للدولة السورية من تقليص الهدر المالي والإداري، وضبط عمليات الإنفاق والمراقبة، وتحفيز الاستثمارات وتسهيل بيئة الأعمال بالإضافة إلى تعزيز ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
من المهم هنا تذكر أن التحول الرقمي لا يمكن أن ينجح دون بنية تحتية رقمية آمنة وموثوقة تشكل العمود الفقري للتعافي. في سوريا اليوم، الشبكات متهالكة، والتجهيزات قديمة، والخدمات غالباً منقطعة. وهذا يستدعي استثمارات ذكية في شبكات الاتصال ومراكز البيانات، وشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص، بعد وضع خارطة طريق متكاملة للانتقال التدريجي نحو الخدمات الرقمية.
دعم القرار بالبيانات: من العشوائية إلى التخطيط المدروس
القرارات الحكومية اليوم يجب أن تُبنى على البيانات، لا على التقديرات والانطباعات فقط. والحديث عن البيانات وأهميتها يطول، يمكن أن نفرد لها سلسلة مقالات مستقبلاً وعن دورها المهم في صنع القرار. يجب اليوم أن نبدأ بتأسيس منصات وطنية لجمع وتحليل البيانات تساعد في فهم تقييم احتياجات المناطق المختلفة بطرق عملية دقيقة، تحديد الأولويات تبعاً للأهمية ومصادر التمويل، رصد وتوقع آثار السياسات الاقتصادية مجتمعياً على المدى المنظور والطويل، بالإضافة إلى وضع نظام رقابة ذكي للحوكمة ومكافحة الفساد.
ولعل إحدى أهم التجارب في هذه المجال ما قامت به كل من إستونيا والمملكة العربية السعودية، حيث تحولت إستونيا خلال عقدين إلى واحدة من أكثر الدول رقمية في العالم، رغم تاريخها السوفييتي والتحديات التي واجهتها وغد اليوم أكثر من 99% من الخدمات الحكومية فيها تُقدّم عبر الإنترنت. كما جعلت السعودية من خلال رؤية 2030، التحول الرقمي أداة للنمو الاقتصادي والتنويع، عبر مشاريع مثل “سدايا”، و”توكلنا”، و”أبشر” وغيرها من المنصات والهيئات والخدمات الرقمية المتقدمة. تثبت هذه التجارب أن الإرادة السياسية والرؤية الواضحة كفيلة بتجاوز الصعوبات، حتى في السياقات الصعبة.
إن بناء سوريا الحديثة لا يمكن أن يتم بالأدوات القديمة التي أنتجت إحدى أفشل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد عبر التاريخ. العالم تغيّر الآن، والبيانات أصبحت أساس التنمية، والتحول الرقمي هو البوابة نحو اقتصاد منتج، وإدارة فاعلة، ومجتمع متماسك. ما يحتم على الحكومة والقطاع الخاص والدول الداعمة أن يدركوا أن كل ما يُستثمر في البنية التحتية الرقمية هو استثمار في مستقبل سوريا الواعد.