سنوات الحرب لم تكن مجرّد صراع مسلح، بل كانت اختباراً وجودياً لهويتنا، لصمودنا، ولإيماننا بعدالة قضيتنا. حين خرجنا مطالبين بالحرية والكرامة، لم يكن في نيتنا حمل السلاح أو صناعة الدمار، بل كنا نحمل حلماً بوطن لا يُذل فيه الإنسان ولا يُقهر فيه الضعيف. واليوم، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن انتصرت الثورة التي حلمنا بها، نعود لا إلى ما كنّا عليه، بل إلى ما نستحق أن نكونه.
كانت العودة من المنفى إلى الذاكرة
بعد سنوات من التشرد واللجوء في المنافي، ومن فقدان الاستقرار، لم تُمحَ ذاكرتنا. عدنا إلى الحي الذي غادرناه ذات فجر مضطرب. عدنا إلى البيت الذي لم يكن بيتاً فقط، بل ذاكرة كاملة: موطئ الخطوات الأولى، مسرح الطفولة، ومرآة البدايات. لكننا لم نجد سوى الركام. الجدران سقطت، الأثاث تلاشى، وكل ما بقي هو العنوان واسم العائلة على جدار مهدم.
تحت سلطة الظلم عشنا الموت حياً، طوال سنوات الحرب، كنا تحت سلطة لا تعرف للعدالة اسماً. عشنا سنوات من القمع الممنهج والاعتقال العشوائي ومصادرة الحريات. جُردنا من صوتنا، ومن حقنا في أن نكون مواطنين. كنا ضحايا لمنظومة ترى في الكرامة تهديداً، وفي الكلمة الحرة جريمة. تلك لم تكن حرباً بين جيوش، بل كانت صراعاً بين إرادة الحياة وسلطة الموت.
النصر لم يكن عسكرياً فقط، بل أخلاقياً وإنسانياً.. انتصرت ثورتنا الحرة. لا لأننا كنا أقوى، بل لأننا كنا أصدق. انتصرنا رغم الفقر، رغم الدم، رغم الخراب. انتصرنا لأننا تمسكنا بمبادئنا حتى الرمق الأخير. ولأننا لم نحمل السلاح إلا دفاعاً عن أنفسنا، لم نقتل إلا من قتلنا، ولم نحلم إلا بوطن يحتضن أبناءه جميعاً، لا يستثني أحداً إلا من أجرم في حق الإنسانية.
الدمار ليس النهاية.. بل بداية البناء
حين تنظر إلى الركام قد تعتقد أن لا شيء يمكن أن يُبنى هنا مجدداً. لكن الحقيقة أن ما يُبنى فوق الألم يكون أكثر صلابة. نحن لا نبني فقط الجدران، بل نعيد تأسيس وطن، على قيم المواطنة والعدالة والمساواة. سنعيد بناء المدارس لا لتمجيد الزعيم، بل لتمجيد المعرفة. سنبني المستشفيات لا لحماية السلطة، بل لحماية الحياة. وسنكتب على الجدران أسماء من رحلوا، لا نسياناً، بل تكريماً لتضحيتهم.
عدنا إلى بيتٍ مُهدم، لكنه ليس مجرد بيت، بل رمزاً لوطن حاولوا تدميره ولم ينجحوا. عدنا اليوم وفي يدنا إرادة لا تُهزم، وفي قلوبنا ذاكرة لا تموت. لم نعد لاجئين، بل عائدين لا إلى الماضي بل إلى مستقبل صنعناه بدمائنا. هذا الركام ليس النهاية، بل بداية.. بداية وطن جديد، نُقيمه على أنقاض الظلم، ونحرسه بالحق.