Blog

ما بين معاوية والشرع: قراءة في براغماتية الحكم بين الأمس واليوم

مايو 18, 2025

ما بين معاوية والشرع: قراءة في براغماتية الحكم بين الأمس واليوم

في زحمة الجدل القديم والمتجدد حول المبادئ والأدوات في عالم السياسة، تخرج علينا أنماطٌ من السياسيين لا تصطف مع الشعارات، ولا تنجرف مع العواطف، بل تدير تلك الأنماط مواقفها كما يدير تاجر بارع أوراقه في سوقٍ متقلب لا يثبت على شيء. والناظر إلى ممارسات الرئيس السوري السيد أحمد الشرع – وإن اختلفت حوله التقييمات – يبدو أنموذجًا لهذا النمط: السياسي البراغماتي، الذي يلتقط الإشارات، ويوازن بين التصعيد والمهادنة، ويجيد استخدام أدوات السياسة الصلبة والناعمة دون أن يكشف بقية أوراقه دفعة واحدة.



ولعل الصورة الشهيرة بينه وبين الرئيس ترامب، بحضور الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي، هي أبلغ من جميع ما ذُكر في أدبيات السياسة عبر التاريخ عن السياسة البراغماتية الذرائعية.


فهل هو داهية كما يراه الكثيرون؟


وهل يصحّ أن نضع “الدهاء” ضمن صفات القيادة السياسية الرشيدة؟


وهل التنازل المرحلي، أو اللعب بالأوراق، أو تأجيل الحسم والمصادمة، يُعدّ ضعفًا أم حكمة؟


عندما نعود إلى أدبيات السياسة الإسلامية، نجد أنه لطالما كان الصراع بين المثالية الأخلاقية ومتطلبات الحكم الواقعية موضع نقاش لا ينتهي، وأعني به الصراع الدائم بين الأدوات والمبادئ في السياسة؛ فبينما يُبشّر الإسلام بقيم العدالة والصدق، يفرض واقع السياسة أدواتٍ أكثر التواءً، تُبرَّر أحيانًا بفقه الموازنات، وأحيانًا بقاعدة “دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح”.



وفي هذا الشعور الحسي بالتناقض، برزت شخصيات سياسية في التاريخ الإسلامي ثبت أنها لم تنتصر بالسيف وحده، بل بالخداع المشروع – إن استطعنا تسمية ذلك انطلاقًا من القول المأثور: “الحرب خدعة” – والدهاء المحسوب، والاستفادة القصوى من تعقيدات المشهد الحالي.



ولعل أبرز من جسّد هذا النمط “السياسي البراغماتي” هو معاوية بن أبي سفيان، الذي تربع على عرش الخلافة بعد سلسلة خصومات مع أبناء عمومته، علي وابنه الحسن رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن ذلك عبر حرب مفتوحة محسومة، بل عبر مزيج من “شراء الولاءات”، و”تعليق السيوف وحديث السلم والسلام”، والاستفادة من توظيف الخلاف القبلي والمناطقي لصالحه، والسعي إلى كسب الولاء الجماهيري، وعدم الصدام مع مكونات الشعب.



وقد عُرف عن معاوية مقولته الشهيرة: “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن جذبوها أرخيتها، وإن أرخوها شددتها.” وهي وصف بليغ لمدى مرونة الدهاء السياسي، الذي لا يتهور ولا يلين، بل يتقن فن التوقيت.



ولي محاضرة منشورة في اليوتيوب عن “معاوية والشخصيات الجدلية في التاريخ السياسي”، أرجو من القارئ مشاهدتها لمزيد من التحليلات بخصوص معاوية رحمه الله.



وفي العصر العباسي، لم يكن هارون الرشيد مجرد أميرٍ للشعر والموسيقى كما تصوره بعض المرويات المسيئة لمقامه السياسي، بل كان يستخدم “شبكات تجسس” تخترق خصومه وتفكك – بذكاء بارع – تحالفاتهم من الداخل، بينما يظهر خارجيًا بصورة الحاكم المتسامح البسيط.



فهؤلاء وغيرهم لم ينتصروا بالأخلاق المجردة، بل بالمزج بين المبدأ والواقعية، والتقوى والحيلة، والصدق والتمويه. ولم تكن هذه الأساليب بمنظور الخيانة في نظر البعض، بل كانت – في سياقاتها – إنقاذًا للأمة أو تجنبًا للفتنة الكبرى.



ومع ذلك، فإن الحاكم الرشيد، في السياق السياسي الإسلامي، لا يُقدِم على استعمال أدوات الخداع السياسي أو المقاربات البراغماتية إلا عند “الضرورة القصوى” وتحقق المصلحة؛ إذ يظل “الأصل” في سلوكه السياسي مرتكزًا على “ترسيخ المبادئ لا الترويج للوسائل”، وعلى تعزيز القيم لا تسويغ الأدوات.



وحين تنقضي موجبات الاضطرار، فإنه يتوقف عن توظيف تلك الوسائل الاستثنائية، ليعود إلى نهجه القائم على المشروعية الأخلاقية والالتزام بالمبدأ. 


وتلك معركة الوجود. وفي النهاية، نتمنى الخير لكل قطر عربي.

شارك

مقالات ذات صلة