آراء
مدفوعا إلى جبهة الحرب، ينفذ الجندي الإسرائيلي أمر الاستدعاء ويمضي إلى مصيره بجعبة مثقلة بذخائر القلق والارتباك، وهواجس انتحار تتسلل إلى ثنايا عقله مع كل طلقة، فلا بأس من أن يلقى هذا الكم الكبير من الإحباط مصرعه برصاصة واحدة، وطلقة تنهي معركة مفتوحة من الاضطرابات العقلية والنفسية التي تحتدم بداخله كلما فتحت ساحة من ساحات الصراع المتجدد في الشرق الأوسط. وها هو “الجيش الذي لا يقهر” تقهر جبروته عدادات الأرقام والإحصاءات المتصاعدة مؤخرا عن أعداد الجنود المنتحرين أو ممن أصيبوا بحالات نفسية وعصبية خطيرة.
نظرة سريعة على البيانات التي تكشف عنها الأوساط الإسرائيلية كافية لتكشف التزايد المضطرد في أعداد الجنود المنتحرين وسط تحذيرات من أن الموجة الكبرى لا تزال قادمة في الطريق، وأن عددا لا بأس به من هؤلاء مازال يشكل قنابل موقوتة لا يعلم أحد متى قد تنفجر.
موقع (شومريم) ويعني بالعربيّة (الحراس) ذكر أنّ قصص الجنود النظاميين والاحتياط الذين انتحروا عقب بدء العدوان الدموي على غزة في السابع من أكتوبر بقيت طي الكتمان حتى يومنا هذا، لكن في أوائل يناير 2025، نشر الجيش أرقام من أسماهم “الضحايا” لعامي 2023-2024، وتشير الأرقام لزيادة في عدد حالات الانتحار، حيث انتحر 21 جنديًا في عام 2024، و17 في عام 2023، وهو أعلى رقم منذ عام 2011.
القلق من المستقبل والشعور بعدم الانتماء للإطار العسكري، أسباب لا يخفيها كثيرون ممن خضعوا للتحقيقات المتعلقة بالبحث عن دوافع الاضطراب والخلل النفسي وصولا إلى اللجوء لرصاصة تنهي الأمر بثانية واحدة. كما لا يخفي الكثير من الجنود غياب تعلقهم بالأرض والوطن الموعود كما يقولون وأنهم يفضلون السفر والبحث عن حياة أكثر أمنا واستقرارا في الخارج بدلا من ممارسة القتل اليومي والتنقل بين الأشلاء والدمار وفقد المزيد من الرفاق في الجيش.
واحدة من عائلات الجنود المنتحرين ذكرت أنّ “ابنها دأب على استحضار ما رآه يوم السابع من أكتوبر خلال هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، وأنه رأى بعينه ما جرى من حالات هلع ورعب مؤكدا أن الرائحة كانت كريهة للغاية، وأنه قضى مع رفاقه ساعات أشبه بحالة الهذيان والضياع، مما يطرح السؤال: كيف يفترض به، بعد كل هذا، أن يعود لمنزله، ويتصرف بشكل طبيعي، خاصة وأنه كان دائم البكاء”.
لعنة غزة تطاردنا، عبارة تتردد أصداؤها في أوساط الجنود، وهو ما أكدت عليه
“شيري دانيلز” المديرة المهنية الوطنية بجمعية آران، والتي قالت إنّه عندما يخوض الجنود قتالاً عنيفًا في غزة، يشعرون بتسارع نبضات قلوبهم، وتدفق الأدرينالين في عروقهم، ثم يعودون لمنازلهم من ساحة المعركة، يصدمهم الواقع، وهذا ما يحطمهم.
الخبايا النفسية والعقلية لجنود مارسوا عبر تاريخ جيشهم أفظع أشكال الإجرام والتنكيل وأجبروا على انتماء عقائدي قائم على القتل والعنف، لا يختلف كثيرا عن حال جمهور المستوطنين؟ إذ كشف المركز الإسرائيليّ للإدمان والصحة العقلية النقاب عن أنّ ربع المستوطنين أصبحوا يتناولون المهدئات والكحول بصورةٍ انتظاميّةٍ، منذ العدوان على غزة.
ووفقًا للتقرير، مع بدء العدوان، قفزت نسبة جمهور الاحتلال، الذي يتعاطى المواد المسببة للإدمان بشكلٍ خطيرٍ مثل الكحول، والحشيش، والعقاقير الطبية وغيرها من المخدرات إلى 25 بالمائة.
التكتم الشديد، سياسة تمارسها شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي التي تتعمد حجب الحقائق المتعلقة بحجم ظاهرة الانتحار وإخفاء المعلومات والبيانات التي تفضح الأعداد الرسمية والحقيقية للجنود الذين يقدمون على إنهاء حياتهم ، ويحمل ذلك في طياته الكثير من الدواعي الأمنية لاسيما الحفاظ على الاندفاع لدى فئة الشباب للانخراط في الخدمة العسكرية وعدم التخلف عن الالتحاق بصفوف الجيش، وللمحافظة أيضا على مشاعر الطوائف اليهودية المتدينة وضمان استمرار تطوع المئات من أبناء الجاليات اليهودية حول العالم في الجيش الإسرائيلي.
معطيات تشي بواقع حكومة يمينية متطرفة تتفكك داخليا بفعل إجرامها وحروبها التي أنهكت مجتمع الجنود والمستوطنين على حد سواء، ومهما سعت حكومات الاحتلال المتعاقبة لإخفاء حجم الضرر الذي يفتك بجنودها ومستوطنيها فإن الأيام كفيلة بالكشف عن المزيد من الحالات التي أصابتها لعنة غزة وما تسونامي الانتحار المتصاعد سوى البداية كما تتنبأ الأوساط الإسرائيلية نفسها والتي تخشى تآكل المجتمع من الداخل والقضاء على مقومات الحياة فيه وتلك نهاية متوقعة في قابل الأشهر والسنوات لا سيما مع إشعال المزيد من الحروب والصراعات والإبادة الجماعية التي تفتك بالإنسانية وشعوبها دون حسيب أو رقيب، وذلك كأس سيتجرعه الاحتلال يوما مع تفاقم أزماته وتخبطه داخليا وخارجيا.





