Blog

الخوف من الحرية… دائرة الانتقام السلطوي العسكري تتوسع لتنال من شعبي مصر وفلسطين!

مايو 8, 2025

الخوف من الحرية… دائرة الانتقام السلطوي العسكري تتوسع لتنال من شعبي مصر وفلسطين!

للكاتب: مصطفى نصار

 

بين الخوف والاعتقال، الغيرية خطر على الدولة القمعية. في كتابه الثمين المجتمع في الدولة، يربط الباحث الأمريكي جويل ميجدال العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويصنّفها إلى أربع مراحل وأصناف من المجتمعات والدولة، منها الدولة التي أسماها “الدولة السجن” في كتابه مجتمعات قوية ودول قوية. ولذلك، ينصح المؤلف بتقوية الإجراءات والتنظيمات والعلاقات الاجتماعية، وإلا ستنهار هذه العلاقات ويتحوّل المجتمع إلى غابة بلا ضوابط ولا قوانين تحكمها. وإن توفرت القوانين، فهي قواعد خدمية لترسيخ التسلط وتقوية الطغيان، وفي بعض الحالات تُعرف بما يُسمى “الإبادة البطيئة”.

وبلا شك، يُعدّ تجديد الحبس لعلاء عبد الفتاح وتدويره في قضية أخرى محاولة مفلسة من عسكر مصر لتثبيت محو الذاكرة الممنهج، وتأجيل حريته إلى عام 2027، أي بعد أربعة عشر عامًا، فقط من أجل وصف مسؤولٍ صار في لحظة سُكرٍ وعربدة مقيتة جالسًا فوق كرسي مصر.

وبنفس المنوال، انتقل القمع من المعارضة الكلامية إلى الكتابية، وأخيرًا إلى الفنية والإبداعية، فاعتُقل رسّام الكاريكاتير والمترجم أشرف عمر بسبب رسومات كاريكاتيرية تعبّر عن السياسات الداخلية والخارجية لأقلية لا تفهم ولا تعي شيئًا في السياسة أو الاقتصاد، بل تزيد الأمر سوءًا حتى تصطدم بمصائر محتومة تاريخيًا، مثل التفكك أو، في أسوأ الأحوال، حالتي الدولة السورية وألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية، أو حتى مواجهة نسخة أشد من نزع السلطة عبر تكوين عصابات مسلحة تتشابك معهم وتلحق الهزيمة الكبرى بالدكتاتورية، وذلك بعد سنوات من الحرب الأهلية التي قد تختلف في شدتها من دولة إلى أخرى.

إن حالتي علاء عبد الفتاح وأشرف عمر تجسيدٌ حرفيٌ لكل معنى من معاني المعاناة بكافة أشكالها، حتى وصف أحد الباحثين المصريين تلك السياسة القائمة بالصهيونية. وهو لم يُخطئ، بل أزيد على ما قاله الدكتور خليل العناني: إن الاستبداد العربي هو الأب الأكبر للصهيونية، وخاصة الاستبداد المصري، الذي حوّل الحياة إلى حالة “الحياة المستحيلة” التي لمح لها الدكتور نزيه الأيوبي في كتابيه تضخيم الدولة العربية و*”الدولة المركزية في مصر”*.

ولا يغفل دور المجتمع في صمود الدولة المتسلطة، كما أشار ميجدال في كتابيه السابق ذكرهما؛ فلا مجتمع بلا دولة، فكلاهما نتيجة للآخر. فالمجتمع يصنع الدولة، والعكس ليس بصحيح، ومهادنة المصريين وخضوعهم تحت مطرقة لقمة العيش بلغ بهم مبلغًا من الذل والمهانة، ما لا يرضاه عبدٌ من عصور القرون الوسطى لنفسه، لكن المصري رضي به فقط ليوهم نفسه أنه يحيا كالبشر، غافلًا أو خائفًا من العواقب، وناسيًا أن العواقب والتوابع كلها ستغلق على رقبته بحلول الوقت، وسيتحول اختياره إلى مجرد خيارين لا ثالث لهما: إما الموت جوعًا وقهرًا، أو الموت مقاومًا حيًا مرفوع الرأس شامخ الهمة.

فالدولة العسكرية متعثرة الولادة، مستحيلة البقاء، لأنها تتغذى أصلًا على المفاسد والموبقات والمظالم في التاريخ والحضارة، فضلًا عن كونها دولة ذات حكّام ناقصي العقل، دونيي النفس، يتمسكون كالغريق بأي أحدٍ يمكن أن يساعدهم، حتى ولو كان عدوهم الأزلي. وهو ما تنبأ به البروفسور آرثر آربري، عبر تتبعه لنمط الحكم في خمس دول مختلفة، على رأسها الاتحاد السوفيتي، الذي لم ينقذه لا استبداده الحديدي، ولا قتله لأصحاب الرأي والفكر، ما دعاه المؤلف لإطلاق اسم بديع عميق: “خرافة الزعيم القوي”.

 

حينما قابل المعتقل الديكتاتور… مفارقة الكعكة بالملح!!

عندما تولّى الديكتاتور العسكري بينوشيه مقاليد السلطة، حرص على إغلاق المجال العام بصورة تامة، وصلت إلى درجة مصادرة مهنة الصحافة، ومنع الكتب، واعتقال الآلاف، حتى استقر المناخ له ليقسم الكعكة له ولرفاقه من الجيش التشيلي. ولسوء حظه، وتحت سيطرة العقلية العسكرية عليه بشكل شامل، وظلل على عينيه نشوة النصر الزائف، وكما يقول ألبير كامو في أسطورة سيزيف، فإن الثقة الزائدة والنصر الزائف هادمان للإنسان مهما بلغت قوته، ليُطبّق كامو أسطورة سيزيف على بينوشيه بصورة أقرب للهزل منها للواقع. ففي إحدى خطبه، التي استغلها بالطبع لكسب عطف الناس، دعا للتوجه للفن والأفلام باعتبارها منفذًا للروح ووسيلة للبهجة وزرع الأمل. وللمفارقة، من سيسقطونه عن الحكم هم زمرة من صانعي الأفلام الوثائقية الشباب. ومن المثير للغاية أن بينوشيه سمح لهم بالفعل بإجراء ما يشبه التصويت الشارعي، وهو نوع من التصويت الذي يُقام في الشارع لقياس الرأي العام. ويختلف، بحسب ماجد عثمان، في الجهة والنتائج، لتُقاس الاستطلاعات من خلال الجهة المنفذة والجهة المستفيدة منها، لإخراج أوضح صورة للرأي العام. ويمكن رصد الاختلافات الرئيسة بين قصة الاستفتاءات عند بينوشيه واستطلاعات الرأي العام، أن الأمر جاء بعد إفلاس أمني دام قرابة ثلاثة عشر عامًا، لتظهر في عام 1983 جبهة مانويل رودريغيز الوطنية، التي واجهته لحين الموافقة على الاستفتاء الثاني الذي تم رغمًا عن الدكتاتور. بشكل درامي، انتهت قصة بينوشيه بما لم يتوقعه، عندما أراد تمليح الكعكة فقط ليتذوقها بطريقة تعجبه.


تصادم وإلهاء وشلل في المعطيات… لماذا ثار الروبوت على صانعه؟

من الفيلم ذائع الصيت I Robot، تعلّمت أن المبالغة في الشيء قد تؤدي إلى نهايته، وظهر ذلك جليًا حينما وقف سوني الروبوت في وجه دال عندما قال له: “لقد عرفتك من مدى اهتمامك البالغ”، وقد حوّل بعدها الاتجاه ليثبت المسدس برأس سوزان. بغضّ النظر عن نهاية الفيلم، دلّ اهتمام دال بحسه الأمني على عامل شك كافٍ لتأكد سوني الروبوت أنه هنا للقبض عليه. ومن هنا، هناك قاعدة بديهية تؤكد التزام الإعلام – وإن لم يكن محايدًا – بنقل صورة الواقع بشكل يُطابقه، وإن خولفت تلك القاعدة، فلا تنتظر إلا التحلل والتفكك المتدرج. باختصار، تنامي نبرة التصادم والإلهاء التي تقصي الآخر تُسهم بالضرورة في خلق أضغاث تحت طبقات النفس، أوشكت أن تتحلل أو تنفجر وقتما تسنح الفرصة، أو يخسر المرء كل شيء تحت المثال الدارج: “ضربوا الأعور على عينه، قال خسرانة خسرانة”.

وعلى العكس، إن طُبّقت سياسة الإعلام المهادن للمواطن، تسير به على خطٍ مفروض، ليردد ما يُقال كما هو في الصورة. فكما أخرج الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في جماليات المكان، فإن المعطيات تُغرز الفرد في رمال المكان، ليثبت ببصره ويشخص ويصبح أسيرًا لها. فأي خلل أو استسلام للمنظومة الإعلامية التصادمية يهدم العمودين الأساسيين لعملية الإلهاء، بنفس طريقة الروبوت سوني، ليثور في نهاية المطاف على صانعيه الذين غرّوه بأن الواقع هو ما يراه منهم، لا ما يراه بعينيه.


الخوف حاكمًا… تكبيل الاحتلال العسكري لشعبين تحت وطأة خوفه

ربط عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان بين الخوف بصفته حاكمًا، والحياة التالفة التي تصيب النفس نتيجة الحادثة والمادية. فقط يعيش الفرد مرتعدًا من المجهول، ويكون حكمه عليه مشوشًا ينقصه البوصلة التي تحقق الوسائل اللازمة للحياة الصلبة ذات القيم والمبادئ. لكن تحليل باومان ينقصه العامل الأمني، الذي يعيش فيه وطن عربي كامل، شديد القتامة مظلم، لا يتخذ إلا من الخوف والهلع والتكميم إلا افتتاحيات لرئيسيات، ومن فروع لأصول، ليتوّج الخوف نفسه ملكًا على الجميع، بداية بأكبر رأس مرورًا بأصغر ظفر من مولود لم يبلغ اليوم.

فعندما يسود الخوف، تتحدّر الوقائع المأساوية إلى أخبار كاذبة، ويُغلف الأمر بالستار الأمني، الذي غرضه فقط، وحصرًا، قصر الدولة الواسعة والفسيحة على رأيٍ مطلق، ينام فيه العاديون تحت أقبية السجون أو براثن الفقر. وتؤكد حالة السعار لدى نظام السيسي مدى هشاشته وضعفه، فضلًا عن انبطاحه العلني، الذي ظهر من خلال سياساته الداخلية تجاه غزة، من تجويع وإطباق الحصار تمامًا، وأخيرًا الطلب بنزع سلاح المقاومة، ما يعكس أيضًا عدم وجود رؤية مستقرة له أو طموح خارجي. فيسجن من شاء، ويجدد لأحمد الطنطاوي ليدوّره مرة أخرى على ذمة قضايا لم يُسمع بها أصلًا، ليس فقط لما سلف، وإنما لأنه يخاف الحرية وتسارع الأنفاس الحيّة، فمن يحلم كارثة، ومن يريد حريته ويُناضل يُدفن إلى غاية الاستسلام أو الفناء.

لأجل التغيير المتدرج وإنهاء الحرب للأبد على غزة والضفة الغربية، لا بد من تحويل الحلم من وسائل التواصل الاجتماعي إلى العمل خارجه، لأن فتح مساحات جديدة بأعدادنا الكبيرة يُجرف أسطورة السيطرة القمعية للنظم العسكرية، التي طالما ثبت زيفها أمام حجافل البشر المكلومة. ولنا في ثورة 25 يناير درس تاريخي قيم ودسم في قدرة إرادة الشعوب على الانتصار، حتى وإن بلغ الشهداء الملايين، لما للاستمرارية القيمية والأخلاقية من تحفيز للحرية، باعتبارها جذرًا تاريخيًا نافذًا ومغيرًا للأحداث. ولعل هذا التغيير لاحظته الفيلسوفة حنة أرندت في كتابيها السلطويات و*”آيخمان في القدس”*.


فالتكبيل الاقتصادي والعسكرة الكاملة والعقاب الجماعي وسائل ناجحة بشكل مؤقت، لأن ببساطة، كما أكد الفيلسوف وعالم النفس إيريك فروم في كتابه الخوف من الحرية، فإن هتلر وجميع السلطويات القمعية انهارت وتبخّرت مثل الدخان، لما تمتلكه من بنية انهيارية تدمر الإنسان نفسه. لكن هذا التدمير يتوقف عند معرفة الإنسان قيمته، وعدم الاستسلام لوهنه وخوفه النفسي، لسبب سطحي جدًا: أن الجلاد خائف ممن يجلده، بشكل أكبر وأعمق من المجلود ذاته. وهنا بالتحديد يعود عالم الاجتماع الشهير نوربرت إلياس، بأنه إذا انعزلت سلطة مطلقة عن شعب، انهارت بسببه.

شارك

مقالات ذات صلة