مجتمع
-أحمد عوض
تهتزّ شوارع جرمانا بصدى أمشاط الرصاص، وتنتصب الأسلحة المتوسطة والثقيلة خلف الشبابيك وفي ساحات الاشتباك. تصطفّ المجموعات المسلحة الدرزية قبالة المسلحين غير التابعين لوزارة الدفاع، الذين حرّكتهم الحمية الدينية بعد تسريب مقطع صوتي مسيء للنبي ﷺ يُنسب لأحد مشايخ الطائفة، لتشتعل فتنة طائفية تحمل في طياتها كمًّا كبيرًا من اللامعقولية؛ إذ لا يمكن أن يكون التسريب والمشكلة الطائفية إلا مفتعلَين لخدمة أجندات سياسية. لقد تحوّل تسجيل صوتي إلى شرارة فتنة.
وليس التسجيل الذي أشعل الفتنة هو السبب الوحيد، بل العديد من المشاكل وجدت في المنطقة مأوى لتنام وتصحو على أصوات الاشتباكات. فالتوتر بين الهجري، شيخ العقل في الطائفة، والحكومة الحالية كان واضحًا منذ سقوط نظام الأسد، وساعد أيضًا ملف الفلول وحملة السلاح الرافضين لتسليمه للحكومة. كل هذه المشاكل برزت في انسجام كامل مع تصريحات نُسبت لرامي مخلوف حول تجهيز قوات النخبة، وتصريحات الحكومة الإسرائيلية حول تجزيء سورية. وفي نهاية المطاف: المشكلة الطائفية. إنها أطنان الجليد التي لا نرى إلا قمتها الجبلية.
هل كانت هذه فتنة طائفية عفوية؟ أم مكياجًا طائفيًّا يُخفي وجهًا آخر؟ خلف الستار، تتحرك فلول النظام وقوى خارجية، ترسم خطوط التقسيم بدماء الأبرياء. هذا المقال يكشف كيف تُستخدم الطائفية كقناع شفاف، لا يُخفي بقدر ما يُضلل، يغطي أجندات الفلول ويشل الدولة، من جرمانا إلى صحنايا، في صراع يهدد الوحدة السورية.
لا بد من فهم عميق للطائفة والموقع الذي تحتله في خارطة الهوية والسياسة في سورية؛ لأن صراع الهويات في الساحة السورية اتخذ شكلًا خطيرًا وحادًّا بعد كل التعديلات التي طرأت عليه خلال الحقبة الأسدية.
إنّ واحدًا من أقدم تعريفات الإنسان أنه “حيوان سياسي”. السياسة هي البُعد الذي يضفي على الإنسان إنسانيته، إذ يشعر بالسلطة، على الغير قبل الذات، ويمتلئ بالتيه الذي تنفحه فيه حلاوة السلطة، الأمر الذي يجعله يكمل مسيرة حياته ليكون أهلًا، إن لم نقل لسلطات أعلى، فللمحافظة على السلطة التي بين يديه.
هكذا، نرى السلطة التي ترافق الإنسان منذ لحظات وعيه الأول تفرض حضورها على طفولته، إذ يسعى للخروج عن سلطة الوالدين لأنه “صار كبيرًا”، وتستمر السلطة بالتضخم معه عبر الدراسة، والعمل، والتخصص، والزواج، والإنجاب، وقد تأخذ أشكالًا أخرى، فتصير سلطة على كلمة، أو ضمير، أو سلوك ديني.
تبدأ السلطة مع الوعي، وتبلغ ذروتها مع الإنسان حين تستقر في اللاوعي، حين يصير لاهثًا وراء سلطة ما دون تفكير. وهنا تأتي السياسة مرشِّدة لهذه السلطة التي تجعل الإنسان حيوانًا مستعدًّا للصراع في سبيلها، فتنظّم السلطات، وتفصلها، وتبيّن حدودها وإمكان الوصول إليها؛ فالأب ذو السلطة الإرشادية، تحكمه سياسة تمنعه من تملّك سلطة تشريعية في حياة أبنائه. وحين يدرك كل صاحب سلطة سلطته، يغدو الإنسان إنسانًا، في سعيه للسلطة وتملّكه إياها، والكَدِّ في المحافظة عليها.
تحارب الأنظمة الديكتاتورية إنسانية الإنسان، وتحيله مجردَ فردٍ من جماهير تهتف بحياة القائد، صاحب جميع السلطات المطلقة، ولذا فإنها تغلق عليه أبواب ترشيد سعيه الغريزي للسلطة – أي السياسة – وتحتكر السياسة وصناعة القرار. فُتحت الأبواب المواربة الموصدة، وظهرت الانتماءات الفرعية عوامل صراع، أكثر من كونها عوامل غنى وازدهار تظهر عراقة الهوية الأصيلة.
هنا تبرز الطائفة حلًّا بديلًا للسعي السلطوي؛ فبعد احتكار السلطة من قِبَل حافظ الأسد، أدرك بقية أبناء الطائفة أن السلطة الأسدية قد فتحت لهم باب استثمار القرى الساحلية والقرابات المصطنعة مع العائلة الحاكمة. وبذا، وفي غضون سنوات قليلة، خلت الضيع الساحلية من شبابها الذين ذهبوا إلى دوائر الدولة وقطع الجيش.
أدركت بقية الطوائف السر السحري في الانتماء الطائفي، فباتت الطوائف كلمات سر لسعادة أبنائها أو شقائهم، وتُقاسمت السلطات حسب مَلاكات الطوائف في الدولة، ثم تقاسمت كل طائفة حصتها من السلطة فيما بينها وبين أبنائها. وهنا نجحت خطة الديكتاتور الأكبر: لقد أصبحت الديكتاتوريةُ السوقَ السوداءَ للسياسة.
في هذا الصدد، يأتي كتاب نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة للمفكر السوري برهان غليون، وثيقة هامة عن الميكانيكية التشغيلية للطائفية داخل نظام الديكتاتورية، إذ يقول:
“الطائفية ليست إرثًا تاريخيًا ولا دينيًا، وإنما هي علاقة شاذة تنشأ نتيجة المأزق الذي تضع فيه النظم الاستبدادية السياسة وتحرم الآخرين من حق ممارستها الشرعية. لكنها وهي تعطل السياسة لا تستطيع أن تلغي وظيفتها، أي التعبير عن تنازع المصالح والتسويات المطلوبة لتجنب القطيعة وبناء توازنات القوى.”
ويضيف: “الطائفية، إذًا، هي نتيجة تعميم الحقوق السياسية على الأفراد، وإغلاق السبل الطبيعية لممارستها. فالصراع الطائفي يصبح هنا التعويض غير الشرعي، لكن الواقعي عن تحريم، أو إعاقة الصراع السياسي الشفاف والشرعي.”
ويكمل موضحًا: “تبدأ المشكلة الحقيقية عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز، أي تصبح الأقلية أو الطائفة حزبًا سياسيًا وقناة للسلطة.”
تظهر الطائفية في سوريا – وفق رايموند هينيبوش وعُلا الرفاعي في مقال Understanding Syria’s Sectarian Wave – بسبب عاملين اثنين: إما أن يتم استدعاؤها من قِبَل فاعلين أساسيين، أو أن تكون نتيجة لانعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
أظهر المقال في الفقرات السابقة كيف تم استدعاء الطائفية عبر عامل خارجي رئيس، هو السياسات القمعية للدولة. وإن كانت الطائفية التي سعت الدولة إليها وشجّعتها مقيدة بأطر كثيرة، فإن الدولة كان يهمها أن تغمس شعبها في الفساد الطائفي.
إن أول ما يقوم به زعماء الانقلابات هو غمس أيدي عناصرهم ورفاقهم في دماء الخصوم، يجبرونهم على قتل بعض الخصوم بأيديهم ليتأكد كونُهم شركاء في الجريمة، فلا يتراجعوا عن الانقلاب أو يخونوه. الأمثلة التاريخية على هذه الظاهرة كثيرة، منها بول بوت وقوات الخمير الحمر في كمبوديا، وهتلر وليلة السكاكين الطويلة الشهيرة. وهذا ما يسميه علم الاجتماع السياسي: Complicity as cohesion – التواطؤ مصدرًا للتماسك.
كان هذا ما قامت به سياسات الأسد الطائفية؛ فرغم مجازيَّة التشبيه، إلا أن الأمر شبيه بانقلاب قام به حافظ على السياسة العقلية التي طورتها الشعوب لمئات السنين، وعاد بقطار الزمن نحو وشائج ما قبل السياسة. وحين أمسكه الشعب متلبِّسًا بانقلابه، قرّر أن يشرك شعبه معه في طائفيته، ففتح أبوابها، وشغل طوائف شعبه بالتناحر لإحراز القدر الأكبر من المكاسب على حساب الهوية “الثقافية التاريخية الدينية”، من بعد ما أغرق الأكثرية السنية في البلاد برجال دين بعثيين، وشيّد لهم المساجد والجوامع. كان يقول: انشغلوا بالدين، وبالدين وحده، ونحن ننشغل بالسياسة.
لم تكن الدولة هي المستدعي الوحيد للطائفية؛ فمطامح مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة، وتداعيات الاستقطاب الروسي – الغربي الإقليمي، عزّزت السياسات الطائفية التي كانت قد رسمت خارطة المنطقة عبر سلسلة من التنافرات والاغتيالات والحروب الأهلية في سورية ولبنان.
الجراح التي خلّفتها السياسات الطائفية المتَّبعة في جسد الشعب لم يستطع أن يقابلها بوعي وطني عالٍ. فالدخول في صراع مع عدو طائفي “يطيّف” هو عدوى تنتقل بسهولة عبر المظلوميات، وترسخ عقائد نفعية في تعاملات الشعب وتسييره لمصالحه ودولته. ولذا فإن ردة فعل الكثير من السوريين الطائفية بعد التحرير – إلى حد ما – متوقعة وطبيعية؛ إذ إن عقودًا من الطائفية الحادة في البلاد تحيل الطائفة عقيدة، والتراجع عن السياسة الطائفية خيانة لها.
كون السياسة الأسدية أبرزت الطائفية خيارًا فريدًا للحصول على حقوق المواطنة، رسّخ في أذهان الطوائف التصور الآتي: إذا كانت حقوق المواطنة تُدرَك بالطائفية، بعد صراع مع بقية الطوائف يُستهلك فيه الطرفان، فإن ما يفوق حقوق المواطنة – أي الحكم – يُدرَك بطائفية القوة، والقوة وحدها.
في هذا السياق، يأتي سقوط الأسد وانتصار إرادة الشعب فرصة سانحة لتحقيق المطامح التي تُدرَك بسياسات ما فوق الطائفية – سياسات القوة، وتغدو التضحيات والمطالب المحقة العادلة شاعرية فارغة، تدحضها الانقلابات، وتنسينا ضحاياها القدامى ضحايا جدد. لقد قتلت الطائفية أصحابها مرتين.
مشكلة وجود الأقليات كمشكلة متعارضة مع الوحدة القومية، مرتبطة أساسًا بمشكلة نوع العلاقة بين المجتمع ككل والدولة التي من المفترض أن تمثّله.
بقدر فقدان الدولة لطابعها كممثل حقيقي للقوى الاجتماعية المتجددة، يأخذ الصراع الاجتماعي طابع الصراع العصبوي على صعيد المجتمع المدني. والقوى التي لا تستطيع أن تجد التعبير عن نفسها في الدولة، تخلق هي ذاتها دولة ذاتية. وبذلك، يتحول الصراع الاجتماعي من صراع قومي بين المراتب الاجتماعية إلى صراع عصبوي بين طوائف أو عشائر أو مناطِق وأقاليم مختلفة.
حلّ مسألة الأقليات والمسائل الطائفية رهنٌ بحلِّ مسألة تغيّر السلطة واستيعاب الدولة للتطورات التي تحصل على صعيد القوى الاجتماعية.





