مجتمع

في التاريخ الحديث لمدينة حماة.. بين الاشتراكية والمحافظة

مايو 7, 2025

في التاريخ الحديث لمدينة حماة.. بين الاشتراكية والمحافظة

أظهرت آخر انتخابات ديمقراطية لمجلس الشعب في سوريا، والتي جرت في عام 1961، فوز اشتراكيي أكرم الحوراني بسبعة مقاعد عن مدينة حماة، وهي جميع المقاعد المخصصة للمدينة. وكانت قائمة الحوراني قد فازت أمام قائمة تشكلت من تقليديي المحافظة من كبار الملاك وممثلي التيار الديني. أظهرت النتائج اكتساحًا جماهيريًا لجناح الحوراني وحركته في حماة، وقيل يومها إن الجيش، الذي كان له حضور كبير، قد ضغط بطريقة ما لتنتهي الانتخابات بهذه الطريقة. وشهدت المحافظة تظاهرات عديدة من قبل أنصار القائمة المؤتلفة التي خسرت الانتخابات.

 

 

رغم أن العنوان العريض لهذه الانتخابات كان ديمقراطيًا، إلا أن فوز سبعة اشتراكيين يدعو للدهشة. وربما ساعدت الاشتراكيين على الفوز ظروف سوريا حينها وسيطرة الجيش بعد الانفصال عن مصر، ولكن يمكن اعتبار أن الجو العام في حماة كان ينحو باتجاه اشتراكية الحوراني بعد وعوده الجذابة التي ستنتصر للفلاحين الذين عانوا طويلًا، دون أن يعني ذلك أن هذا المنحى كان أصيلًا أو له ديمومة، فالطابع التقليدي الذي يتجه إسلاميًا كان واضحًا ومؤثرًا. وهذا ما برهنت عليه المظاهرات التي رافقت إعلان النتائج وهزيمة التيار المحافظ.

 

 

ويمكن اعتبار الحركة الاشتراكية التي زرعها الحوراني وأنفق جهدًا كبيرًا في تربيتها قد أظهرت نتائج جيدة في الريف الحموي، وامتدت لتشمل جانبًا من المدينة ذاتها، دون أن تتنكر المدينة لتاريخها التقليدي ذو المناخ الإسلامي. تمت المصادقة على النتائج، ومثّل الاشتراكيون حماة في ذلك العهد وحتى ليلة الانقلاب البعثي في السابع من آذار عام 1963.

 

 

أفرز انقلاب الثامن من آذار وجوهًا عسكرية وبعض المدنيين من قادة حزب البعث، ووجد الحوراني الذي قام الانقلاب باسم حزبه، نفسه خارج التشكيلة نظرًا لموقف حزب البعث منه. فبعد جولتين من التصفيات، ذهبت معظم الصلاحيات إلى يد أمين الحافظ، الذي استُدعي على عجل من السفارة السورية في الأرجنتين وكان يعمل بصفة ملحق عسكري. فقفز عدة رتب عسكرية ليجد نفسه، خلال فترة وجيزة، يجلس على مجموعة كبيرة من المناصب العسكرية والسياسية والحزبية التي تبدو كبيرة جدًّا على شخص واحد، وكأن وضعه في كل هذه المناصب دفعة واحدة هو توريط مقصود له باستغلال شخصيته البسيطة والعفوية.

 

 

انقلاب الثامن من آذار، تلاه طرد الناصريين والوحدويين من الجيش، ثم تفرد البعثيين بالسلطة. جعل ذلك الجو العام في سوريا اشتراكيًا برعاية السلطات الجديدة، التي فرضت عناوين الحزب وتبنتها ودافعت عنها. وكان من نتائج ذلك شعور البعثيين بالغرور والصلف والتعالي على مكونات المجتمع الفكرية الأخرى، وربما كان التيار التقليدي ذو التوجه الإسلامي أول ضحايا هذا التعامل الذي تحول إلى مظاهر استفزازية مباشرة.

 

 

وفي عام 1964، في السابع من نيسان، عيد تأسيس حزب البعث، كتب أحد الطلاب على لوح الصف المدرسي: “لا حكم إلا للبعث”، فتقدم طالب آخر ليمسح ما كتبه زميله البعثي ويكتب: “لا حكم إلا لله”. كان من الطبيعي بعد ذلك أن تنشأ مشاجرة، ولكن في الواقع، اتخذ أسلوب البعث في معالجة مثل هذه المشاكل طابعًا سياسيًا، واتبع طريقة أدت إلى مواجهة ذات محتوى طائفي ومذهبي.

 

 سجنت سلطات البعث الطالب الذي كتب العبارة الإسلامية، وغالت في سجنه، ورفضت كل الوساطات لإطلاق سراحه. وبالغت أكثر عندما لجأت إلى نقل بعض مدرسي الدين من المحافظة، ما جرّ إلى خروج مظاهرة في يوم الجمعة التالي، تخللها إطلاق نار من قبل السلطة تسبب في مقتل أحد المتظاهرين. تطور الأمر إلى إضراب عام في المدينة، ولجأ الشيخ مروان حديد وبعض أنصاره إلى مسجد السلطان. فحاصرت السلطات العسكرية المدينة، وأنشأت طوقًا حول الجامع لفض الاعتصام بالقوة، وأطلقت النيران من الأسلحة المختلفة، وكانت الدبابات حاضرة في وجه المعتصمين.

 

 

وتوجهت قيادات من البعث إلى المدينة، كان على رأسها أمين الحافظ بنفسه. انتهى الأمر بمجموعة من الأحكام العرفية التي قررت فتح محلات المضربين بالقوة، وإغلاق المدرسة التي شهدت الأحداث بشكل نهائي، وتوزيع طاقمها التدريسي بين المدارس الأخرى، واعتقال الكثير من المشاركين في الاعتصام ووضعهم رهن الإعدام، قبل أن يستجيب أمين الحافظ لمطالبات أهالي ووجهاء المدينة ويطلق سراحهم جميعًا.

 

 

لم تدم هذه الأحداث طويلًا، ولكنها أظهرت أن البنية التقليدية المحافِظة في حماة متينة، وحية، وجدية، وكان على السلطات أن تراعي هذه الخصوصية للمدينة، باعتبار أن الفكر الذي انتشر بسرعة وأدى إلى انتخاب اشتراكيين نوابًا عن المدينة كان فكرًا طارئًا وموسميًا أملته ظروف محددة، وبعد زوالها، أظهرت المدينة وجهها الحقيقي القائم على نزعة إسلامية. وتجلى ذلك في إضراب عام وتعاطف جارف مع معتصمي جامع السلطان، أجبر سلطات البعث على تخفيف الأحكام وإلغائها بحق المقبوض عليهم. ورغم ذلك، كُتبت هذه المواجهة أول صفحة من صفحات الصراع بين مدينة حماة والبعث.

 

 

عادت المواجهات للظهور في منتصف السبعينيات بين تنظيمات إسلامية متنوعة توزعت على كامل جغرافيا القطر، مع سلطات البعث، فقد أوغل البعث في فرض سيطرته على مظاهر البلاد كلها، وفرض شخصيته السياسية على كل موروث أو تقليد محلي. وشكل استفزازًا للتيارات الإسلامية الموجودة على الأرض، فتكتلت في مجموعات متفرقة، ووجدت بين بعضها روابط ما، وبدأت بتنفيذ هجمات منفردة استهدفت بشكل رئيسي شخصيات محددة من نظام حافظ الأسد، فاغتالت عددًا منهم. الأمر الذي أصاب الحاكم بجنون، فضرب يمينًا وشمالًا حتى أصاب في ضرباته الكثير من الأبرياء.

 

 

وفي مرحلة متقدمة من هذه المواجهة، وجدت المجموعات المقاتلة سبيلًا للتكتل وفتح قنوات اتصال مع أقطار خارجية متعاطفة معها، ورأت في حماة معقلًا جيدًا، فتجمع فيها المسلحون بأعداد كبيرة، وشددت السلطات البعثية قبضتها عليهم. وكانوا من محافظات عدة، وبعد أن اطمأنت السلطة إلى أن عددًا كافيًا من المقاتلين متحصنون في حماة، قطعت طرق مواصلاتها، ومنعت عن سكانها الأغذية، ونفذت خطتها التطهيرية.

 

 

كانت هذه المواجهة بين سلطات البعث مع المدينة أكثر عنفًا وشراسة من سابقتها، واستُخدمت أساليب شديدة من تطويق قوات الجيش النظامي للمدينة، ومنع خروج أو دخول أحد إليها، ثم قطع المؤونة الغذائية عنها حتى توقفت الأفران عن العمل. وانتظرت القوات خارج المدينة حتى فرغت كل مخزونات المطابخ من منازلها، ثم قامت بهجوم عسكري ساحق بمختلف صنوف الأسلحة، مدمرةً الأبنية التاريخية. أتى الهجوم على أكثر من ثلثي المدينة القديمة، وأزال أحياءً بالكامل بكل ما فيها من معالم أثرية وتاريخية وروحية، وانقشع الهجوم عن عدد كبير من القتلى تجاوز – حسب مصادر عديدة – الثلاثين ألفًا.

 

 

أرادت السلطات مسح التاريخ المحافِظ لحماة، فأزالت أنقاض المدينة القديمة، وسمحت بتشييد أبنية جديدة حكومية فقط (فرع حزب البعث، وفرع قيادة الشرطة) وفندق (أفاميا)، محاولةً طمس معالم كل ما يمتّ للقديم بصلة. وهاجر سكان الأحياء المدمرة ولم يعودوا إليها أبدًا، وحاولت السلطة أن تمارس دفنًا لهويتها السكانية، فأوعزت لشرائح شعبية من البيئة المؤيدة لها في المدن الأخرى، بالتوجه إلى حماة للسكن على أطرافها وفي الأرياف القريبة.

 

 

كان قدرًا لهذه المدينة أن تُستباح مرتين، وأن تتغير معالمها إلى الأبد. ورغم ذلك، وبشكل مدهش، عاودت حماة الانتفاض مجددًا في العام 2011 مع المدن الثائرة، فخرجت منها أكبر مظاهرات شهدتها البلاد ضد بشار الأسد، حيث تجمع في ساحة العاصي في يوم واحد ما يزيد عن نصف مليون متظاهر هتفوا وغنّوا لإسقاط الوريث الحاكم.

شارك

مقالات ذات صلة