سياسة
في جنازةٍ بليل، كأنها سر عظيم، لجثمان لم يكن له أن يدفن على عين الناس، ولجثةٍ كان الأولى بها أن تُوارى الثرى في مكان لا يعلمه أحد، ووسط مشيّعين يسيرون في غضب ونقمة وسخط، بينما يرون أن مشهدهم ذلك كله، ومصابهم المؤلم، ليس إلا أكذوبةً كبرى، لأن الخبر الوارد على التلفزيون الرسميّ، وقنوات الدولة، يؤكد للجميع أنه لا “قتيل” آخر، ولا أحد اسمه إسلام إبراهيم بين قوافل الشهداء، رغم أن النعش نعشه، والجسد جسده، والقبر قبره، والأهله أهله، وتلك المارّة من حولك، وتسير فيها معهم بروحك وجروحك، هي جنازته.
أحدهما صادق، والآخر فاحش في الكذب، إما الذين يحملون هذا الكفن إلى مثواه أعدوا مسرحية باهظة الثمن، متقَنة الصنع، مدهشة التفاصيل، بالبكاء، والتكبير، والتهليل، وزفة الشهداء، وبحضور بعض زملائه المجندين، أو إن ذلك المشهد برمته صحيح، وحقيقةٌ كبرى، بينما يكذب قادته، هؤلاء الساسة أصحاب الياقات البيضاء، والألسنة المنقوعة في سوادٍ، حين يخبرون الجميع، عبر نوافذ النكسة، بأنه لا شهيد آخر في مصر الليلة، حتى لو كان الشهود مائة مليون إنسان، وحتى لو كان إعلام العدوّ، القاتل، يؤكد لنا أنه بالفعل قتل شابًّا فتيًّا آخر من أولادنا، وحتى لو كان المجرم يتباهى بجريمته، ويعلنها على رؤوس الأشهاد.
ذلك لم يكن إلا بعد استشهاد فتى أوّل، شيّعه أهله وخاصّته وأهل قريته، وأذاعوا أن عبدالله رمضان، في ذمة الله شهيدًا، على الحدود، بينما بكينا ونعَيْنا قبله ثلاثة آخرين في الليلة نفسها، بالخطأ، وذلك من رزقهم رحمهم الله، لكنهم كانوا ضحايا حوادث مختلفة أخرى لا تتعلق بالحدود ولا بالحدث “الأمني”، وكان ذلك في سبيلنا للبحث عن وجه فقيد البلاد ظهيرة السابع والعشرين من مايو، واستغرقنا وقتًا، حتى عرفنا أخيرًا، بعد عشر ساعات، أنه الجندي مقاتل، المجند الشريف النبيل الشهيد البهيّ “عبدالله رمضان قطب حجي”.
كان من الصعوبة، واحرّ قلباه، أن نعثر على اسم “أحد العناصر المكلفة بالتأمين”، كما جاء النعي الذي أجاد ببراعة جمع ما لم تكن تتحمله اللغة من قباحة ودناءة وقذارة وحقارة، في وصف ابن البلاد ونبراسها، ولا أتخيلها إلا جملةً تتبرأ منها العربية والحروف والمخارج، وعبارةً متقيَّأة وجدت ضالتها إلى فم المتحدث العسكريّ، باسم العصابة العسكرية، التي لم تدرك -رغم عقودها الطويلة في سدة القيادة- معنى الجندية، ولم تنل من العسكرية شرفها.
اشتباكٌ على الحدود؟ دفاع عن الأرض؟ غيرة على العرض؟ شهادة برصاص قناصة أو بعد إطلاق رصاصة؟ ثورة على الخنوع الحدوديّ؟ وتمرد على الحدود نفسها؟ عصيان للصمت المذلّ؟ وإقبالٌ على الموت الشريف؟ واستبسالٌ على طريق الحق؟ وفداءٌ على سبيل القدس؟ وإثخانٌ في عدو خبيث؟ كل تلك الأفعال والأوصاف وغيرها من سيناريوهات البطولة، قد حدث أحدها لا شك، لا احتمالات أخرى في الكون وفي القتل على الحدود سوى ذلك، لكن ياللعجب والمرارة، أن الدولة لم تعلن عن أي منها، ولم ينتج عن “تحقيقها” المزعوم أي سبب حرٍّ للوفاة، سوى أنه كان “برصاصة طائشة”، خلال “اشتباكات على الحدود بين المقاومة والاحتلال”، مع تجهيل القاتل وتنكير المقتول، وفتح قوسٍ لسيناريو آخر لم يكن ليأتي على بال إسرائيل نفسها، بأن الرصاصة الطائشة قد تكون من أحد الطرفين!
وهكذا ينظرون إلينا، من قصورهم العالية، شرذمةً من العامة، وحثالةً في القاع، إن اعترضنا فنحن “عناصر” تخريبية، وإن اعتقلنا فنحن “عناصر” إجرامية، وإن قتلنا فنحن “عناصر” إرهابية، وإن تحدثنا فنحن “عناصر” إثاريّة، وإن ثُرنا فنحن “عناصر” خارجية، وإن تمردنا فنحن “عناصر” خوارجية، وإن وقفنا على الحدود، ندافع عن البلاد، والحياة، والكرامة، ثم قتلنا العدو بخسة وغدر، فنحن “أحد العناصر المكلفة بالتأمين”.
ومع ذلك، فأولئك الجنديّ الذين استشهدوا على الحدود، كل من إسلام إبراهيم وعبدالله رمضان، مع كل تلك الجهود القومية الحثيثة في التهوين من الحدث وقتلهم مرة أخرى، تنص البروتوكولات العسكرية على أن تقام له جنازة عسكرية، بحضور صفوف أولى من أفراد القوات المسلحة، ورتَب كبرى، تحمله السواعد المنظمة، وتتقدمه الفرَق الحربية، ويُزفّ إلى مقبرته في إيقاع ورفعة وجلال، ويُنعى كما يستحق أن يُنعى الأبطال الذين رووا رمال بلادهم بطهارة دمائهم الزكية. ومع ذلك؛ فإن الرجل أُلقي إلى أهله كأنه عار يجب التخلص منه، وبسرعة، كأنه عبء سياسي، وورطة دبلوماسية، وإلهام خطرِ.
ربما لو كانت أم الرئيس، أو كلبه، ربما لو كان سياسيا سابقًا باع من البلاد نصفها، ربما لو كان قائدًا لم يطلق في الاتجاه الصحيح رصاصة واحدة، ربما لو كان خائنًا كما تستحق الخيانة من احتفاء، ربما لو كان جنديًّا أدى ما عليه من تأمين الحدود ولو بقتل إخوته المقتربين منها، ربما لو قُتل خطأ برصاصة أخٍ آخر لا عدو على سبيل المكايدة والحزم، ربما لو كان سارقًا أو قاتلًا أو عميلًا في بزة وطنية، ربما لو كان الرئيس نفسه، لأقيمت له جنازة عسكرية.
لكني على رغم مرارة المشهد وقسوة الحاضر ومذلّة القوم، لا يؤسفني ذلك بأي درجة، وإنما سكّن شعورًا بالراحة داخلي، أن ذلك من عظمة تكريم الله لشهيده، ومن تنزيهه لجنازته -ولا نزكيه على خالقه ومصطفيه- أنها كانت جنازة شعبية من المعزّين الصادقين، فلا يسيرنّ بينهم خائنٌ واحد، ولا يحملنّه عاتقٌ ملوّث، ولا يبكيَنّه وجه كذوب؛ فكان من جلالة التشريف، وذروة الرزق، وعظمة الختام، ألا تقام له جنازة عسكرية!
فيا حبيبي يا أحد العناصر! ويا أخي الذي يحاولون وضع اسمه في خانة “مجهول”، ويا أيها الشهيد المجيد الذي يحاولون طمس سيرته ونهايته واختياره النبيل وملامحه، ويا أيها الجنديّ المقتول مرتين، مرةً برصاصة العدوّ، ومرةً بنذالة القيادة، فوقعت بين مصيرين محتّمين، وبين طلقتين مجرمتين، وبين مرارتين عظيمتين، فاستحققت بذلك شهادتين، شهادةً تمنحك وسام الحق والرجولة ووعد الله بالآخرة، وشهادةً بأنك مثلنا، ومنّا، وابننا، أحد جدعان “القاع” الأصيل، الذي لا ينتمي إلا إلى القمة الحقيقية وحدها، في الأعلى!
انتهى،،،،