مدونات

تشافي لا يشبههم: نحو نظرية نفسية من قلب التجربة الفلسطينية

مايو 5, 2025

تشافي لا يشبههم: نحو نظرية نفسية من قلب التجربة الفلسطينية

للكاتبة: غزل عثمان

 

في زمنٍ تُختزل فيه المعاناة بمصطلحاتٍ علاجية جاهزة، ويُطلب منا أن “نشفى” وفق نماذج مستوردة، يبدو الحديث عن الألم الفلسطيني من داخل التجربة أمرًا ملحًا. هذه محاولة لإعادة طرح سؤال التشافي من منظورٍ يخصنا، ويشبهنا، ويعترف بأننا لا نحمل فقط جراحًا نفسية، بل ذاكرةً مثقلة بتاريخٍ من القهر والمقاومة.

بدأت تتشكل داخلي أسئلة لا يمكن تجاهلها. أسئلة تمس جوهر ما نطلق عليه “التشافي.” فهل يكفي أن أتعافى أنا؟ بدأتُ أدرك أنَّ مسار التشافي النفسي كما يُطرح علينا، ليس بريئًا تمامًا من الأطر التي صاغته. العلاج النفسي، كما نعرفه اليوم، لا ينفصل عن الإرث الفلسفي الغربي الذي يفصل الإنسان عن سياقه، ويعالج ألمه كخلل داخلي، لا كنتيجة لبنية قهر ممتدة. إنَّه يفترض أنَّ الفرد هو وحدة القياس، وأنَّ الخلاص يبدأ من الداخل، متجاهلًا أن هناك آلامًا لا تنبع من “الداخل” أصلًا، بل من منظومات أكبر، من أنظمة قمع، من استعمار، من فقد جماعي، من حاضر يتكرر فيه الموت.


وهنا يبدأ السؤال الحقيقي: هل يمكن لفرد في غزة، فقد أسرته تحت الركام، يعيش على وقع طائرات لا تغيب، ويترنح بين ذاكرة مجروحة وواقع هش، أن يُفهم وفق النموذج النفسي الغربي ذاته الذي كُتب في مختبرات جامعات ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل الصدمة، كما تُعرَّف في الأدبيات النفسية الغربية، كافية لتوصيف ما يحدث لطفل يشاهد بيته يُقصف؟ هل القلق، كما يُشخص في دليل الـDSM، قادر على احتواء مشهد أم تبحث عن بقايا أبنائها بين الأنقاض؟

حرب غزة الأخيرة لم تكن فقط تكرارًا لصراع دموي، بل كانت لحظة مفصلية أنتجت أنماطًا نفسية جديدة. أشكالًا من الفقد، والرعب لم تُرصد بعد في أي معجم نفسي، ولم تُدرس في أي كلية علم نفس. لكن ما يزيد تعقيد الصورة هو أنَّ الكثير من المحاولات التي تُقدَّم بوصفها “دعمًا نفسيًا” لأبناء غزة وسواهم من الشعوب المستعمَرة، ما تزال تنطلق من النموذج نفسه الذي ننتقده. تُرسل الوفود لتطبيق جلسات الدعم النفسي الطارئ، وكأنَّ الصدمة حادث عرضي يمكن تجاوزه في ساعات، لا نمط حياة قائم، ولا بنية ممتدة تتجدد مع كل طلعة شمس. تُوزَّع استبانات التقييم، ويُطلب من الأهل والأطفال التعبير عن مشاعرهم بملصقات ملوّنة وأشكال جاهزة، في مشهد يبدو أحيانًا أقرب إلى التنميط العاطفي منه إلى الإنصات الحقيقي.


ما يُقدّم من دعم، حتى حين يكون نابعًا من نية حسنة، غالبًا ما يعجز عن ملامسة العمق، لأنَّه لا يرى الناس في سياقهم، بل كحالات ينبغي تصنيفها، وعلاجها، ثم طيّ ملفها. ولأنَّ التشافي ليس منتجًا يُستورد، ولا وصفة تُوزع على الجميع بالتساوي، فإنَّ السؤال الأكثر إلحاحًا يصبح: كيف نكتب نظريتنا النفسية؟ كيف نصوغ لغتنا الخاصة في فهم الألم، والفقد، والنجاة؟ كيف نصغي لأدبنا، وشهاداتنا، ومذكرات سجوننا، ومجالس العزاء، ونستخرج منها أدوات للفهم والبناء؟ لماذا لا تكون سيرة أسير قضى عشرين عامًا خلف القضبان، أو أرملة أنقذت أطفالها من تحت الأنقاض، مرجعًا في فهم النفس، كما هي دراسات المختبرات الغربية؟


إننا نمتلك من التجارب، ومن البلاغة، ومن الألم المُعلّم ما يجعلنا أهلًا لتأسيس مدرسة نفسية جديدة، لا تبدأ من الانفصال عن الذات، بل من العودة إليها. هناك حاجة ماسة اليوم، لا فقط لإعادة النظر في أدوات التشخيص، بل في فلسفة التشافي ذاتها. نحن بحاجة إلى نموذج يفهم أنَّ الإنسان الفلسطيني لا يحمل فقط ألمًا شخصيًا، بل إرثًا نفسيًا تشكل في جغرافيا استعمارية، داخل سياق جماعي، لا يمكن فصله عن الأرض، ولا عن الذاكرة، ولا عن الجماعة.


العلاج النفسي، بصيغته الحالية، لا ينكر الألم، لكنه يعزله. يفككه، ثم يعيده إلى صاحبه وكأنه وحده المسؤول عن حمله. أما نحن، فنعرف أنَّ آلامنا ليست فردية، وأننا نُشفى لا حين نفصل أنفسنا عن الجرح، بل حين نفهمه ضمن سياقه، ونمنحه لغة تشبهنا. نحتاج إلى علاج نفسي يصغي لا فقط إلى الصوت، بل إلى الصمت الذي تعلمه الفلسطيني منذ طفولته: الصمت في حضرة الفقد، في مواجهة اللاجدوى، في تلقي أخبار الموت كأمر عادي. نحتاج إلى نموذج لا يرى “الصدمة” فقط كموقف مفاجئ وعابر، بل كزمن مستمر، كهوية سياسية، كفعل يتجدد يوميًا.


وهنا يصبح التشافي فعلًا سياسيًا وثقافيًا، لا مجرد مسار علاجي. تشافٍ يعيد ربط النفس بجسدها، بجماعتها، بتاريخها، بمقاومتها، وبحقها في الصراخ والبوح دون خوف من التصنيف أو التبسيط أو الاختزال. تشافٍ لا يطلب منا أن نتكيف، بل أن نفهم، وأن نعيد بناء أدواتنا النفسية من لغتنا نحن، من ديننا، من طريقتنا في الحب، والخوف، والبكاء. لأننا لا نُشفى وحدنا، ولا نُشفى بأدوات لا ترى وجعنا، بل نُشفى حين نصنع لغتنا الخاصة للتشافي، وحين نسمح لصوتنا بكل ما فيه من كسر وصمود، أن يكون هو المرجع.

شارك

مقالات ذات صلة