سياسة
للكاتب: حلمي أبو طه
نقف اليوم في محراب العلم والوفاء، على أعتاب المجد، ما بين محراب العلم وعرين الشهادة، في لحظة لا تشبه غيرها من لحظات التاريخ، نحتفي بروح الشهيد جابر أحمد جابر جودة، ابن فلسطين البار، في يوم مناقشة أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في السودان، وقد ارتقت روحه الطاهرة شهيدًا في قصف غادر طال منزله في مخيم النصيرات بقطاع غزة، بينما كان يحمل مشروعه العلمي كمن يحمل وطنًا. لقد مضى جابر جسدًا، لكنه بقى فكرًا نابضًا ورسالة حية. اسمه اليوم محفور في ذاكرة الجامعة وفي ضمير فلسطين، حاضرًا بيننا بعلمه لا ببدنه، بصبره لا بصوته، وبحلمه الذي أبى أن يُقصف. فقد آمن أن العلم شكل من أشكال المقاومة، وأن القلم أصدق من الرصاصة حين تُسخر في وجه الجهل والظلم والاحتلال.
جابر الذي لم تمهله آلة الحرب، لكنه نال شهادة أكبر من الدكتوراه… شهادة السماء، حين اختاره الله شهيدًا، فزيّن علمه بدمه، وعلّق شهادته على أبواب الخلود. ناقش الشهيد جابر أطروحته بين صفحات الأوراق، لكنه كان في الحقيقة يناقشها على أرضٍ تئنّ تحت القصف، في بيئة لا تليق إلا بالأبطال: بيئة الحصار والدمار والفقد، لكنها في ذات الوقت بيئة الإصرار على إنتاج المعرفة، والتمسك بالهوية، وتحويل البحث العلمي إلى فعل نضالي. لقد كتب جابر بحثه بالحبر، لكنه وقع عليه بالدم. اختار أن يكون باحثًا لا يبحث عن منصب، بل عن معنى، أن يكون طالب علم لا لينال شهادة، بل ليضيف لبنة في بناء الوطن المعرفي. من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في السودان، نمنحك اليوم يا د. جابر، شهادةً من الأرض والسماء، من الجامعة والميدان، شهادة اجتهدت لها وأكرمك الله بخاتمة الشهداء. نسجّل اسمك في سجل العلماء الشهداء، أولئك الذين لم يرضوا أن يعيشوا على هامش الحياة، فارتقوا على هامش المجد، بين السطور والرصاص.
رحمك الله يا دكتور جابر، لقد أتممت رسالتك، وأتمها الله لك بالشهادة، فكنت في الحياة باحثًا، وفي الخلود منارةً تضيء الطريق للأجيال القادمة في فلسطين وخارجها. لقد أجاب جابر على كل الأسئلة بثبات المستبصر، وبنور التثبيت من الله تعالى، وأتمّ رسالته على وجهها الأكمل. واليوم، حين نقرأ أطروحته، نقرأ معها صموده، نقرأ وجعه وصبره، نقرأ فلسطين كلها مجسدةً في سطور باحثٍ لم تغره الحياة، بل اختار أن يكون شهيدًا للعلم والوطن معًا. وإن كانت السماء قد كرمته أولاً، فإن هذه الجلسة اليوم ما هي إلا تكريم أرضي بعد تكريمٍ سماوي، نمنحه فيها الدرجة التي سعى لها بعقله ووجدانه، ونتوج علمه بلقبٍ لن يُنسى: “الشهيد الدكتور”. ولعل لسان حاله الآن، وهو يرقب الجلسة من جنة عرضها السماوات والأرض، يتابع ابتسامة والده الفاضل، الحاج أحمد جودة، الذي يحضر اليوم فرحةً ممزوجة بالدمع والفخر… فرحة الأب الذي لم يُسعفه القدر ليعانق ابنه، لكنه يعانق اليوم إنجازه، ويُقدمه نموذجًا يُحتذى في البحث والإيمان والفداء.
ليس بغريب على جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية أن تُجسد هذا الموقف النبيل، فتحتضن ذكرى أحد أبنائها الباحثين بكل ما تملك من مشاعر الوفاء، وكافة قياداتها ومقاماتها العلمية والأكاديمية مجتمعين. إنها الجامعة التي لا تكتفي بمنح الشهادات، بل تحتفي بأرواح طلابها، وتُخلد مناراتهم، وتُقدّر جهادهم في محراب العلم. والشكر والعرفان إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في فلسطين، التي رعت هذا الاحتفال، وواكبت هذه الجلسة، فكانت حاضرة برسالتها السامية وجهودها النبيلة، في سبيل تعزيز مكانة العلم، ومواصلة الدعم للطلبة والباحثين، حتى في أصعب اللحظات.
وما بين الألم والأمل وأنا أرى أطروحة الدكتور الشهيد جابر أحمد جودة تُناقش بعد ارتقائه إلى ربه، أستشعر وكأنني واقفٌ مكانه، أُتمم خطوات البحث، وأسير على دربٍ لا أعلم أأصل فيه إلى يوم المناقشة؟ أم يكتب الله لي أمرًا آخر كما كتب له؟ لقد أنهيت —بفضل الله— متطلبات دراسة الدكتوراه، وأتممت كتابة الأطروحة كاملة، ونلت موافقة مشرفي الكريم على رفعها لتحديد موعد المناقشة. غير أني، وبكل صدق، لا أعلم هل سيُقدّر لي الوقوف أمام لجنة المناقشة في الزمان والمكان، أم سيكون نصيبي مثل جابر، أن أرحل قبل أن أقطف ثمرة جهدي الطويل. ومن هنا، ومن بين ركام مخيمات النزوح، وتحت صدى القصف، ومن ليالي السهر الطويل، أُخاطب إدارة جامعة طرابلس الموقرة في لبنان الشقيق، بعد أن أُشهد الله أولاً، أنني قد كتبت أطروحتي بكل عناية فائقة، وحرص بالغ، وأمانة علمية كاملة. لم أقصّر في واجبي تجاه البحث والدراسة رغم الظروف، بل قدّمت كل ما أملك من جهد وإخلاص، وأنا على يقين أن الله مطّلع على صدقي.
فإنني أرفع هذه الرسالة أملاً في أن تنظر الجامعة بعين الرأفة والعدل والاحتضان الإنساني، وتُسجّل أطروحتي وتحفظها، وتُبقي على حقي في مناقشتها إن أذن الله لي بالحياة، أو تُمنح بعدي إن سبقني الأجل، إكرامًا للعلم ولمن حمله، حتى في أحلك الظروف.
اللهم إنك تعلم أن الشهيد جابر ما أرد من هذا العلم رفعة دنيوية، وإنما طلبه سعيًا لخدمة قومه وأمته… وأنا على دربه فاختر لي الخير حيث كان. وسلامٌ على روحك يا د. جابر، سلام على قلمك، وعلى علمك، وعلى عطائك الذي لا يزول. رحمك الله، ورفع ذكرك، وجعل أطروحتك صدقة جارية في ميزانك.