سياسة

الاستعصاء الميداني وسقوط الحل العسكري في غزة

مايو 28, 2024

الاستعصاء الميداني وسقوط الحل العسكري في غزة

قتلى وأسرى الصهاينة في جباليا في اليوم الثاني والثلاثين بعد المائتين، وصواريخ رفح على تل أبيب في الشهر الثامن من الحرب، وقناص بيت حانون الذي يقتل ثلاثة جنود إسرائيليين برصاصتين، جميعها ترسم مشهداً ميدانياً جديداً سيلقي بظلاله على المسار التفاوضي والسياسي القادم، فالميدان هو الحكم والفصل، ومن كان مسحولاً في الميدان لا يحق له فرض الشروط على طاولة المفاوضات.

 

 

الواقع الميداني الآن يقول إن الجيش العرمرم الذي غزا غزة بقوام 6 فرق قتالية، وبعديد قتالي ضم حوالي 300 ألف جندي و2000 دبابة ومدرعة، لا زال عالقاً في مساحات قتال تكتيكة لا تؤثر كثيراً على السياق العملياتي ولا تجني ثماراً استراتيجية على المدى المتوسط فضلاً عن البعيد.

 

 

بل يمكن القول إن الحرب قد انتقلت فعلاً من حرب لا متناظرة بين جيش نظامي وجيش شبه نظامي إلى معركة بين جيش نظامي وعصابة، في حرب عصابات واضحة، وهو ما يجعل جيش العدو يخوض معارك مختلفة في كل مرة يجتاح فيها حياً أو منطقة، وربما يواجه تكتيكات مغايرة في كل مرة يجتاح فيها ذات الحي، مما يجعل صورة إسرائيل التي تصر على اجترار أهدافها وتكرار عملياتها بشكل سخيف، تبدو كمقامر يخسر بشكل حاد على طاولة البوكر، وفي كل خسارة يتولد عنده إصرار أكبر على مواصلة المقامرة عساه يسترد شيئاً من أمواله التي تتبدد أمامه وتذهب أدراج الرياح.

 

 

مع اقتراب نهاية الشهر الثامن للحرب تبدو إسرائيل كتائه ظمآن في صحراء، يركض خلف كل سراب يلقاه، وهي لا تعلم أنها في حالة استنزاف مستعصية، سواء على صعيد القوات التي تتآكل كل يوم في معنوياتها وقدراتها وعديدها وعقيدتها القتالية، أو على صعيد جسر الإمداد بالمال والسلاح الذي بدأ يذوي عنها، أو على صعيد الغطاء السياسي والقانوني الذي بات يبدو يكاد أن ينكشف عنها.

 

 

معسكر جباليا: شاهد على استعصاء الحل العسكري

 

سجل شهر مايو -الذي لم ينته بعد- استهداف أكثر من  150 آلية عسكرية، و30 قتيلاً باعتراف العدو نصفهم في معسكر جباليا، وذلك دون احتساب الجنود الذين قتلوا وأسروا في كمين جباليا، وهو رقم كبير بالطبع إذا ما نظرنا للمشهد في سياقه العام، خاصة وأننا نتحدث عن الشهر الثامن للحرب، وعن منطقة يجري اجتياحها للمرة الثانية، حيث أثبتت المقاومة في هذه المعركة قدرتها العالية على القتال لفترة أطول بكثير مما كان يتصور العدو، وقدرتها على تحقيق ضربات دقيقة وإنجازات تكتيكة أكبر في المعركة الثانية من الأولى، وأن استمرار القتال يعني تطور تكتيكات المقاومة وتورط العدو في حرب استنزاف. 

 

ومن هنا يمكن تفصيل الوضع الميداني في ٤ نقاط مركزية:

 

أولا: حجم النيران ومبدأ التأمين: يعتمد العدو بشكل مركزي في تحرك قواته على تأمينها بزخم ناري هائل، فبالعودة لبداية المعركة، إلى الأيام العشرين الأولى من القتال والتي سبقت المناورة البرية، سنرى كيف نفذ العدو قصفا سجاديا غير مسبوق، من خلال ما يقرب من عشرة آلاف غارة من السماء، وثلاثين ألف قذيفة من القطع البحرية وقطع المدفعية، مستهدفاً بشكل رئيسي تسوية المناطق والأحياء التي ينوي التقدم إليها، وقد دمر أحياءً كاملة مثل حي الكرامة، وأبراج المخابرات في منطقة غرب غزة، والتي شكلت منطقة هجوم العدو الرئيسي في الجولة الأولى من المناورة البرية، بقيادة الفرقة المعادية 162، وقد استمر هذه النوع من التمهيد الناري طيلة أيام القتال في المرحلة الثانية.

 

 

هذا الزخم -بخاصة النيران التمهيدية- أصبح أقل بطبيعة الحال في الجولات القتالية التالية، نظراً لمشكلات فنية مثل تقلص مخزون الذخيرة عند العدو، ومشكلات سياسية من قبيل عدم احتمال الحالة السياسية الإقليمية والعالمية أن تكون المعارك بذات الدموية التي كانت عليها في النصف الأول من أيام القتال. وعلى الرغم من ذلك؛ لا يزال العدو متمسكاً بمبدأ التأمين، بسبب خشيته المفرطة من الخسائر، فهو من أكثر جيوش العالم حساسية من تعداد خسائره، خاصة وأن قرار إرسال الجنود إلى جبهات القتال مرتهن بالروح المعنوية لأمهات المقاتلين. هذا الأمر جعل جيش العدو ثقيلاً، لا يمتلك رشاقة المقاتلين من المقاومة.

 

ثانيا: معنويات المقاتلين: عادة ما يمتلك المهاجم معنويات عالية، إلا أنه هذه المرة يدخل بمستوى معنويات منخفض، بسبب عجزه عن أداء المهمة في المرة الأولى وطول أمد القتال بلا جدوى، أما المدافعون، فمن الواضح أنهم يمتلكون روحاً تعرّضية أكثر بكثير من القوات الغازية، ويمكن أن نرى ذلك في الزخم القتالي العالي والعمليات الدقيقة والكثيرة التي ينفذها المقاومون، والثبات الأسطوري الذي يبديه سكان المخيم ومقاتلوه.

 

هذه المعنويات العالية والروح القتالية الجسورة كسرت ما تبقى من هيبة الحرب عند المقاتلين، خاصة بعد فشل العدو في كسر المشروع خلال المرحلة السابقة، وتجاوز مرحلة الخطر الوجودي (سيناريو التهجير وغيره). ويمكن أن نرى شواهد ذلك في حالة التسابق على ميادين الاشتباك  بشكل مذهل، ففي الجولات السابقة من القتال كنا نشاهد، مثلا، استهداف دبابة واحدة بقذيفة ياسين واحدة، لكننا شاهدنا في هذه المعركة استهداف ثلاث دبابات دفعة واحدة، مرة في معسكر جباليا، ومرة في رفح.

 

 

ثالثا: المرونة التكتيكية: “حماس تقاتل كالحرباء”، هكذا يقول جنرال كبير في جيش العدو محاولا توصيف قدرة المقاومة على تبديل تكتيكاتها وتغييرها بما يتلاءم مع طبيعة الميدان ومستجدات مسرح العمليات. وهذا ما شهدناه في معركة جباليا الثانية تحديداً، من إدخال تكتيك البيوت المفخخة إلى مسرح العمليات، والذي لم يبرز بذات القدر الحالي في معركة جباليا الأولى، وكذلك على صعيد العمليات المركبة، طبقات ومراحل بعضها فوق بعض، بالاستفادة من استثمار النجاح في كل طبقة والمراكمة عليه، والتي أفرزت نجاحات بارزة وإصابات في مقتل القوات الغازية.

 

 

رابعا: العمى الاستخباري: العدو الذي اعتاد الدخول في معاركه بمخزون أهداف ثقيل، فقد جزءا كبيرا منه بعد استهلاكه في الغارات الكثيفة والعنيفة، وفقد القدرة على ترميم هذا المخزون نتيجة سلب المقاومة قدرته على ذلك لعدة أسباب، منها تغيير طريقة عملها وقتالها وانتشارها في ميدان القتال، وكذلك إجراء تعديلات على منظومة الاتصال والتواصل وتكتيكات القيادة والسيطرة، وأيضاً فقد العدو جزءا كبيرا من خارطة الأهداف العسكرية نتيجة القصف المجنون، الذي غيّر ملامح البنية الحضرية للقطاع تغييراً جوهرياً، مما أفقده عناصره البشرية على الأرض وأي تحضيرات فنية كانت تساعده في جمع المعلومات حول المقاومة.

 

هذا العمى، أدخل قوات العدو في معضلة حقيقة في مسارح العمليات، مما اضطرهم للاشتباك القتالي عن قرب، وذلك على عكس تكتيكه الذي يقوم على القتال بالأذرع الطويلة خشية الوقوع فريسة الضربات القاصمة.

 

 

 

حي الزيتون: شاهد على فشل سيناريو استبدال سلطة المقاومة

 

 

حي الزيتون هو المنطقة الوحيدة التي جرى اجتياحها ثلاث مرات، وهو الشاهد الأول على سقوط الحل العسكري كأداة لإخضاع مناطق القطاع لسلطة يعينها الاحتلال. ففي الاجتياح الأول للحي، بالتوازي مع اجتياح الشجاعية والتفاح، قاتلت الكتيبة قتال الأبطال، وفي الاجتياح الثاني للحي، كان يحلم غالانت أن يسقط سلطة المقاومة، ويستبدلها بحكم العائلات والعشائر، إلا أنه باء بالخيبة والفشل، وعاد جيشه بعد عشرة أيام يجُرّ 4 جثث، و60 جريحاً. وعند سيطرة العدو على نتساريم، أُسندت لكتيبة الزيتون مهمة استنزاف قوات العدو في ذلك المحور.

 

وبالفعل، قاتلت الكتيبة ببراعة، وأدخلت العدو في حالة استنزاف مرهقة دفعته لسحب معظم قواته وإبقاء لواء واحد فقط. ورغم ذلك؛ استمرّت الهجمات، مما حوّل هذه المنطقة من مكسب استراتيجي للعدو إلى مكمن خطر هائل، مما دفعه للتنازل عنه سريعاً في مقترح المفاوضات السابق. وعندما انهارت المفاوضات في السابع من مايو الجاري، اجتاح العدو حي الزيتون بالتوازي مع رفح، بغية منع الكتيبة من استهداف القطاعات القتالية في محور نتساريم، إلا أنه فشل في ذلك أيضاً، وسرعان ما انسحب خائباً.

 

 

 

اليقين الذي تبدد: استعصاء الحل العسكري

 

 

ماسبق كانت له نتائج واضحة علي دفع العقل الإسرائيلي للإحباط وخفض سقف توقعاته للحرب، فنجد وزير الحرب الإسرائيلي يوآف جالنت يقول: “حكم عسكري إسرائيلي في غزة سيرفع مدة الخدمة العسكرية لأربع سنوات، ولا يوجد لدينا عدد كافي من الجنود لإقامة حكم عسكري “، ويقول: ” حكم عسكري في قطاع غزة ثمنه دماء ممنوعٌ علينا أن ندفعها”. ونجد وزير الخارجية الأمريكي يقول: “يجب أن تتعلم إسرائيل الدرس الذي تعلمناه في فيتنام وأفغانستان والعراق بأن الحروب يجب احتواؤها بمسار دبلوماسي، وإلا فستتحول إلى حرب استنزاف”.

 

 

في الختام وإجمالا؛ على صعيد المقاومة، أرى أنها لا زالت تحتفظ بسيطرة ميدانية عالية، وجبهة داخلية -مرهقة ومتعبة- لكنها صامدة، وبيئة إقليمية لصالحها، ونجاح كبير في تأمين الأسرى. وعلى صعيد العدو، تتصاعد حدة الخلاف الداخلي، ويشتد الحصار الدولي، وتزداد وطأة المحاكم الدولية والدعاوى القضائية، كما يرتفع صراخ عائلات الأسرى وأمهات الجنود، وأيضاً يتسلل لعقول قادة العدو العسكريين قناعة مفادها أن الحل العسكري بات مستحيلاً، وضغط أمريكي بضرورة الحل الدبلوماسي العاجل وإلا ستكون اسرائيل مهددة بتبديد إنجازاتها التكتيكية.

 

انتهى،،،،

شارك

مقالات ذات صلة