سياسة

هل تُشعل قسد نارَ شرق الفرات بيدها؟

أبريل 29, 2025

هل تُشعل قسد نارَ شرق الفرات بيدها؟

استغلّت قسد الإطار العريض للاتفاق الذي وُقّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي في العاشر من آذار/مارس الماضي، والذي نصّ في أحد بنوده على أن المجتمع الكردي جزء أصيل من الدولة السورية، وتضمن الدولة حقوقه في المواطنة والحقوق الدستورية. فعقدت قسد مؤتمراً عُرف بمؤتمر الحوار الوطني الكردي، والذي أرسلت عبره مجموعة مطالب عن شكل الحكم والحريات ودعم الأكراد والمكونات السورية، إلا أن أكثر هذه البنود غموضًا هو الذي يتحدث عن “توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية”، بندٌ من غير الواضح الهدف منه، ولا المناطق التي يمكن اعتبارها مناطق كردية، أو طبيعة طريقة توحيدها.

 

 

ويبدو أن قسد تحاول تحويل عملية التفاوض بينها وبين الحكومة السورية من الإطار التفاوضي المبني على لقاءات اللجان، إلى الإطار العلني المبني على إرسال رسائل سياسية بغلاف توحيد الصف الكردي وتأطير مطالبه المبنية حول مستقبل سوريا وطبيعة وجود المكون الكردي السوري داخل سوريا الدولة والجغرافيا. كان يمكن لقسد أن تطرح هذه البنود خلال جلسات التفاوض بين اللجان التي تم ويتم تشكيلها من قبل الحكومة السورية وقسد، وأن يتم نقاشها بشكل معمق ورؤية مدى إمكانية تحقيقها بما يضمن وحدة سوريا وتحقيق الأمن فيها، لكن قسد فضّلت تحويل التفاوض إلى ساحة العلن، فاتحةً الأبواب والفرص أمام القوى الخارجية للتدخل في مسار التفاوض.

 

 

يبدو أن اختيار قسد الانتقال إلى التفاوض العلني هو نتيجة الفراغ السياسي الدولي في جعبتها، فالولايات المتحدة الأمريكية باتت ودمشق في أول طريق كسر الجليد السياسي والتوجه نحو التعاون المشترك في عدة قضايا، أبرزها محاربة داعش والإرهاب، والتي هي المبرر الذي تُشير إليه واشنطن عند الحديث عن دعم قسد، كما أن التوجه الأوروبي بشكل عام نحو التعاون مع دمشق هو من التطورات التي تنظر إليها قسد بحذر، سيّما في حال تحوّل الدعم الإنساني، بما فيه المخيمات شرق الفرات، إلى مركزية دمشق وليس شرق الفرات.

 

 

الحكومة السورية أصدرت بياناً صادراً عن رئاسة الجمهورية قالت فيه: “نرفض بشكل واضح أي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني شامل”، وأكدت أن “وحدة سوريا أرضاً وشعباً خط أحمر، وأي تجاوز لذلك يُعد خروجًا عن الصف الوطني ومساسًا بهوية سوريا الجامعة”، وشدد بيان رئاسة الجمهورية على أن “الحل في سوريا لا يكون إلا سورياً وطنياً شاملاً، يستند إلى إرادة الشعب، ويحافظ على وحدة البلاد وسيادتها، ويرفض أي شكل من أشكال الوصاية أو الهيمنة الخارجية”. ورغم الخطوط الحمر التي رسمها البيان، إلا أنه دعا قسد إلى “الالتزام الصادق بالاتفاق المبرم وتغليب المصلحة الوطنية على أي حسابات ضيقة أو خارجية”.

 

 

 

قسد والحكومة السورية.. ديناميكيات معقّدة

 

منذ توقيع الاتفاق بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي لم يحصل أي خرق ملفت للنظر من ناحية خطوات تنفيذ البنود بين الطرفين، ولأن هذه البنود التي تم التوقيع عليها هي في الإطار العام وليست بنوداً تفصيلية، فإن ذلك يُعقّد عملية التفاوض بين اللجان، ويخلق مساحات كبيرة للاختلاف على تأويل بعض البنود، سيّما المتعلقة بشكل الحكم والدستور ونفوذ المكون الكردي داخل نظام الحكم. وبحسب المعلومات التي حصلنا عليها، فإن ممثلي قسد لطالما تجنبوا الحديث عن الواقع الأمني وآليات الدمج العسكري وطبيعة حلحلة الملفات الكبيرة مثل السجون والمقاتلين الأجانب في صفوف قسد، والذين ينتمون لحزب العمال الكردستاني المُصنّف على قوائم الإرهاب في كثير من الدول الداعمة لقسد بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

من التعقيدات التي تخيّم على عملية التفاوض أيضًا هي الاعتقالات التعسفية المستمرة التي تُنفذها قسد بحق المدنيين منذ توقيع الاتفاق في العاشر من آذار/مارس، وخصوصًا تلك التي تستهدف الذين يدعمون توحيد الأراضي السورية ودخول الحكومة السورية إلى مناطق قسد وحلّ الأخيرة، وبحسب المعلومات، تحاول قسد خلق حالة من التشتت في الملفات التفاوضية، مثل جعل أهداف التفاوض تتجه نحو حلحلة الواقع المتأرجح -سد تشرين، وقف الاعتقالات- دون إفساح المجال للدخول في صلب التفاهمات الحقيقية بين الطرفين.

 

 

تسعى قسد لخلق صورة عن وجود خلافات داخلية ضمن صفوفها، فقادتها الكبار يتحدثون عن الارتياح في التفاهمات مع دمشق وسير التفاوض بشكل سلس ودون مشاكل، في حين يقوم جناح آخر ضمن قسد باعتقال العشرات من السوريين في مناطق شرق الفرات لمنع أي مزاج علني يدعم حكومة دمشق بين المدنيين. على الرغم من صحة وجود خلافات داخلية ضمن قسد، إلا أن وصول تلك الخلافات إلى مرحلة مواجهة التفاهمات مع الحكومة السورية يعني أن الإدارة العليا لقسد -متمثلة بمظلوم عبدي- غير قادرة على ضبط وحدة صفها ومركزية قرارها، فيما يمكن أن تكون هذه التحركات تكتيكاً تنتهجه إدارة قسد لتأخير مسارات التفاهم بحجة وجود معوّقات داخلية.

 

 

في المقابل، الحكومة السورية تحاول التعامل مع تكتيكات قسد بطريقة سياسية، فلا هي قاومت التعقيدات التي تخلقها قسد، ولا صعّدت مواقفها، وحتى بيان رئاسة الجمهورية حول مخرجات المؤتمر الذي عقدته قسد كان يسير وفق المسار الدبلوماسي، رغم الرسائل الجدية التي يرسلها والخطوط الحمر التي يرسمها. وفد الحكومة السورية الذي يفاوض قسد ملتزم الصمت إعلامياً حول مسار التفاوض، ويبعث برسائل إيجابية حول تقدم المفاوضات. يبدو أن هدف دمشق هو عدم التصعيد، وخلق نوع من الاستقرار إلى حين التوصل إلى خرق جدي في مسار تطبيق الاتفاق بما يخدم استراتيجية الحكومة بتوحيد سوريا وعدم الدخول في أشكال حكم مثل اللامركزية أو الفيدرالية.

 

 

ولا يخفى على قسد أن الحكومة السورية ترسل تطمينات للعشائر العربية بأن التفاوض مع قسد سينتهي بطريقة إيجابية تضمن حقوق الجميع وتحقق وحدة الأراضي السورية، وأن أي تغيير في طريقة التعامل هذه التي تنتهجها الحكومة السورية سيؤدي إلى انهيار الاستقرار في منطقة قسد، بفعل القوة التي ستشكلها العشائر في مواجهة قسد داخلياً، وهي قوة لا يُستهان بها من ناحية العدد والعتاد.

 

 

قسد وفلول النظام.. ونهر من غضب في أراضيها

 

تحاول قسد تقوية نفوذها السياسي الداخلي من خلال فتح قنوات تواصل مع فلول النظام الموجودين على أراضيها أو الموجودين في منطقة الساحل السوري، وبحسب المعلومات التي حصلنا عليها، فإن قسد تحاول تجنيد عناصر نظام سابقين في صفوفها ممن يرفضون التسوية مع الحكومة، وذلك لسد النقص في عدد المدافعين عنها، خصوصًا أن كثيراً من الشباب الذين كانوا ضمن صفوفها فرّوا إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية، فضلًا عن أن بعض العشائر في مناطق سيطرة قسد بدأت تطالب الحكومة بحلول سريعة لحالة الاستعصاء الحاصلة في عملية التفاوض. كل ذلك يعني دخول قسد في حالة عدم الاستقرار للصفوف العسكرية، وبدء الحاجة إلى وجود قوى تثق بها من ناحية العداء للحكومة السورية.

 

 

ويشير مصدر مطلع إلى أن قسد بدأت بالفعل نقل بعض عناصر النظام إلى الرقة، ويتم نقلهم إلى معسكرات تدريب قبل دمجهم في القوى العسكرية التابعة لها، إن كانت على خطوط التماس مع الحكومة السورية عند سد تشرين، أو في المناطق القريبة من خطوط التماس في دير الزور. العمل مع قسد يتم وفق صيغة تعاقد برواتب شهرية، كما تقدم قسد وعودًا لهم بمساعدتهم على جلب عوائلهم إلى مناطق شرق الفرات في الوقت القريب. هذه الاستراتيجية ليست جديدة، هي تتم منذ حوالي شهر أو أكثر، مما يعني أن قسد لا تسعى إلى الاستعجال في تحقيق تفاهمات مع دمشق من جهة، وتحاول دعم صفوفها العسكرية التي بدأت تتناقص وسط غضب مدني تجاهها.

 

 

محاولات قسد تدعيم صفوفها تأتي في وقت تعاني فيه من بيئة طاردة لمشروعها، هذه البيئة كانت موجودة زمن النظام، لكنها بدأت بالتمدد مع سقوط الأسد وانهيار نظامه، ومع دخول الحكومة السورية الأروقة الدولية السياسية كخطوة أولى للتطبيع مع المجتمع الدولي. 

 

العشائر في دير الزور انتفضت ضد قسد قبل سنتين، وقوات العشائر ما زالت حتى اللحظة تُشكل كابوساً لقسد ازدادت قوته مع تحرير دير الزور والبوكمال وخروج القوى التي كانت تقف في وجه العشائر وتمنعها من تكثيف هجماتها ضد قسد. العشائر في الحسكة بدأت هي الأخرى تهدد بالانتفاض ضد قسد، وكذلك العشائر الموجودة في الرقة. هذا الاحتقان الشعبي ضد قسد، والذي يتزايد مع قيام الأخيرة باعتقالات تعسفية ضد المدنيين، بالتأكيد سيكون السبب الرئيسي للقلق عند قسد، خصوصاً مع التقارب الذي بدأ يدخل مراحله الأولى بين الحكومة السورية وواشنطن، الأمر الذي تراه العشائر في منطقة قسد فرصة أمامها لنزع الشرعية المحلية عن قسد، الشرعية التي وصفتها شخصية عشائرية بالقول: “شرعية مؤقتة لحين اتفاق أمريكا ودمشق على التعاون لمحاربة داعش”.

 

 

مما لا شك فيه أن قسد لا تعتمد بشكل رئيسي على قوتها العسكرية في مسار التفاوض مع الحكومة السورية، بل تعتمد على ما تبقى من دعم دولي-أمريكي ضاغط لمنع الاشتباك بينها وبين الدولة السورية، وفيما يبدو أن المؤتمر ومخرجاته هي محاولة من قسد لرفع مستوى التفاوض إلى العلن، وخلق حالة من الضغط على دمشق بالقول إن هذا المؤتمر يوحّد الكرد والعرب على صفحة واحدة فيها مطالب مجتمعة، وربما تأمل قسد أن تحقق مكاسب سريعة قبل انقلاب الموازين وخسارتها للدعم السياسي الدولي المتوجه نحو دمشق. وقسد تعلم تماماً أنه دون الدعم السياسي من قبل واشنطن وبعض الدول الأخرى، لن تستطيع الصمود أمام نهر الغضب الشعبي الذي يزيد قوة فيضانه سلوك قسد القمعي تجاه المدنيين.

شارك

مقالات ذات صلة