تأملات
أتوجّه إلى نيابة أمن الدولة، تلبيةً لاستدعائها الجديد، لا اعتقادًا بوجوب التلبية لعدالة الاستدعاء، إنّما تجنّبًا لتحوّله لقرار ضبط وإحضار، تستعرض فيه السلطة مهارتها في البطش كما تستعرض عضلات مدرّعاتها وعساكرها في اللثام ولباس الحرب، لعلّي أحبط شهوة الاستعراض التي سأكون أنا مسرحها، وإن تحقّق استعراضٌ آخر، له آليّة التعامل معه كما للأوّل، لكننا نختارُ غالبًا ما نقدرُ عليه، لا فقط ما نعتقدُ في صحّته (أليس هذا بابٌ للتنازل )؟
لا أملك -وفريق دفاعي- معلومةً نواجه بها المصير، ولا إشارة واحدة عن سبب الاستدعاء، فقط رفض متعجرف- مخالف لصريح القانون- من النيابة، وتكهّنات المحامين، وخطايا قديمة/كثيرة ارتكبتها في كلّ كلمةٍ أو مقالٍ أو قصيدة أو تصريح، في لحظات صدقٍ مع هذا البلد المعتلّ، أو شهاداتٍ أتخفّفُ من ثِقلِ كتمانها بالإعلان.
تعيد محاميتي الدءوب قراءة منشوراتي ومقالاتي كما لو كانت تبحث عن بصمات أصبعي في مسرح جريمة، حتى السكوتُ يمكن تفسيره في أحايين عديدة، في نظر السلطة -عديمة النظر- كلّ شيءٍ يمكن اعتباره جرمًا أو نيّةً في الإجرام، وكلّ رأيٍ هو مشروع تحريضٍ أو تخريب، وهكذا يبدو التحقيق الذي أذهب إليه ولا أعلم لو سأعودُ، ليس مكانًا لاستجلاء الحقيقة، بل طقسًا يغذّي الشعور بالذنب، لتبدأ رحلة البحث عن الجريمة التي نسجت حولي دون علمي.
لا تطلب السلطةُ أن أدافع عن نفسي، وإلا لأخبرتني بموضوع التحقيق في استدعائها، كما يوجب القانون، بل تطلب أولاً أن أقرّ بالذنب الذي لا أعرف، وأنطلق من هذا اليقين، لما يليه من تبعات، تشبه السلطةُ هنا مريضٌ بشهوة الحكم، إذ يصيبه القلق ويتصبّغ وجهه بالبقع الحمراء وتنتابه الحكّة مالم يحاكم أحدًا ويدينه (لماذا تُشبه؟ أليست هي تجسيدٌ للمثل في أجرم صوره؟)
لا يحتاجون لوقائع بل إلى سياق عام من الاشتباه، تقرير من جهاز أمني، يوجدكَ حيث لا يجب أن تكون، أو يقوّلك ما لا يصحّ قوله، خاصّةً في هذه اللحظةَ أو تلك، إذ لن يواجهوك بجريمة، بل سيصنعون منك جريمة تمشي على رجلين، وهكذا تبدأ المأساة: عليك أن تفتّش في ذاتك وتستعرض تاريخك وكلماتك وسلوكك وعلاقاتك وغضبك وحتى صمتك، لتكتشف الجرم المجهول الذي ارتكبته.
تمامًا كما كان الحال مع يوسف. ك. في المحاكمة، ألا يكونُ الذنب سابقًا على التحقيق، إنّما ناتجًا عنه؛ أن تصبح أنتَ مشروع الاتهام الكامل، وتتحوّل حياتك إلى أرشيف في درج موظّف غامض في مبنى النيابة منتقلاً من درجِ موظّفٍ غامض في مبنى جهاز أمني.
في الليلة السابقة للتحقيق، أحادثُ محاميتي، التي لا تملك هي ولا غيرها أيّ معلومة، ولم يسمح لها أن تسأل، كلّ ما تستطيع فعله هو التخمين: ما الذي قد يكون أغضب السلطة؟ وفي بلدٍ كبلدي المسكين، كلّ شيء يغضب السلطة، بما في ذلك وجودنا المجرّد على قيد الحياة.
تستعرضُ مقالاتي ومنشوراتي، وتشير لي: هذه تزعجهم وهذه وهذه وهذه، فتعدّ ثلاثين احتمالٍ في الشهرين الأخيرين فقط،عن غزّة وعن التصهين، وعن الخيانة، وعن التعذيب وعن القهر وعن المنع وعن الاعتداء… كلّهم يمكن اعتبارهم جريمة في عرف السلطة، كحارسٍ لذاكرتي في هذه اللحظة أقوم لأفتّش فيها، بعد أن زُرع الشكّ بالأسئلة، كأنّ النجاةَ مشروطةٌ في تلك اللحظة بالتذكّر، تذكّر ما قلته، وما فكّرتُ فيه،وما اعتقدته أيضًا، إنّها تمدّ يدها إلى داخلك، بعد أن حاصرتك تمامًا من الخارج.
تبدو هذه الأسئلة موضوعية، عقلانية، بل وتُقدَّم أحيانًا كنوع من “النقد الذاتي” الضروري، أو التدقيق والتوثّق قبل القول والفعل، لكنها في الحقيقة ليست إلا أدوات إخضاع، تسعى السلطة أن تنتزعك من قناعاتك الأولى، أن تُخلخل يقينك بأنك على حق، أو على الأقل، أنك كنت حرًا في أن تكون على خطأ بعد اجتهادٍ ومحاولة.
أضحكُ ساخرًا من نفسي، وأذكّرني: أليس هذا مرادهم أصلاً، أن أشكّ في ذاتي؟ أن أفتّش عن ذنبٍ لا يراهُ إلا هم؟ إنّهم لا يفتّشون عن الحقيقة، بل عن وسيلة إدانتي، نعرفُ أن العدالةَ والقانون ليسا طرفًا ها هنا، هنا فقط تقامُ طقوس الدولة في إدانة خصومها، وإعادة تشكيل المخاليق، إمّا أن ينسحبوا، أو يُروّعوا أو ينسحق وجودهم وينتفي تمامًأ.
ستدعوكَ السلطة باستدعاءاتها المتكرّرة، وتهديداتها المتلاحقة، وحبوساتها اللامنتهية، ستدعوك لأن تراجع وتفهم وتعيد النظر وتتريّث، لكنّ الحقيقة ليست غرضها، إنّما كسر بنيتك الداخليّة، أن تعيد إنتاج ذاتك وفقًا لشروطها، وهنا تمامًا يجب أن تقاوم، لا السلطة وحدها، إنّما هذه الرغبة الزنّانة في نفسك لأن تستريح، أن تتوقّف المعاناة، أن يدفع آخر غيرك الثمن” فقد دفعت كثيرًا وآن أن تستريح” ستقول لك نفسك؛فاخرسها.
ذكّر نفسك بأنّ هذه ليست مراجعات، بل أثر للعنف والتعذيب النفسي كما الجسدي، ليست إعادة نظر، بل تخويف ممنهج، غايته أن تبقى أسيرًا للأبد، لكن هذه المرّة، ستكون أنت سجّانك..
المعركة ليست فقط على ما أؤمن به، بل على حقي في أن أؤمن أصلًا، ليست على ما أقوله، بل على الحقّ في أن أقول، لا أردّد ما تنتجه الأجهزه وتحشره حشرًا في الأدمغة وعلى الألسنة.
ولهذا، فإنّ أوّل سبل المقاومة، هو نفي شرعية هذه المراجعة القسرية، وتذكير النفس بأن ما يُطرح عليها من “أسئلة موضوعية” ليس بريئًا، بل جريمة في حقّك، استدعاءك، وملاحقتك، وحصارك، ومراقبتك، ومنعك من كلّ حق، والشيء الوحيد الذي أمتلكه الآن، بعيدًا عمّا في ضمنه، هو أن أتمسك بما أظنه حقًا، لا عنادًا، بل لأن الانسحاب في هذه اللحظة هو انتصارهم الكامل .
لا يكفي أن تكون بريئًا، في بلدٍ كهذا، بل يجب أن تناضل لترسّخ إحساسك بالبراءة في ذاتك، أن تدافع عن حقيقتك في مواجهة المسخ والتخويف والتهديد، في مواجهة المؤسسة والسلطة والدولة.
لا أعرفُ ما ينتظرني في جلسة التحقيق، لكنّي لن أفتّش لأجد الذنب المجهول، عليهم أن يفعلوا ربّما، فجرائمهم في كلّ شبر، وعلى كلّ وجه، وفي كلّ قلب، لن أشارك في بناءِ سرديّتهم الملفّقة،
ولعلّ هذا هو كل ما تبقّى لنا في النهاية: أن نخرج من المصفوفة، لا مرة، بل كلّ مرة، أن نحمل وعينا معنا، كفعل يوميّ من أفعال المقاومة
ونرفض أن نصبح مجرّد مشروع لإعادة التشكيل أو الإخضاع.
– كُتبت هذه المقالة فجر يوم السبت 26 أبريل، قبل التوجّه لنيابة أمن الدولة لحضور التحقيق بناءً على استدعائها المجهول.