مجتمع

من سورية هنا فلسطين

أبريل 29, 2025

من سورية هنا فلسطين

-كوثر الخطيب



يوماً بعد يوم، تزداد الخلافات والنعرات بين أبناء الشعب الواحد، ويبدأ التراشق بحجارة التغريدات، التي تهدم كل ما بناه الآخر بدمه. النتيجة تكون فتنة نتنة، تدفعنا إلى هاوية الحاضر، وتغضب منا التاريخ وصفحاته. فكيف العمل؟



لقد نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بتربية من حوله بأخلاق الإسلام التي تؤهلهم لقيادة العالم وتحدي مصاعب الأرض. نتج عن تلك المدرسة المحمدية جيلٌ مثقفٌ عارفٌ بالسياسة والحكم وكل جوانب الحياة، فانطلق هذا الجيل راكباً قطار الفتوحات. ونحن هنا سنركب معهم قطار فتوحات بلاد الشام.



بدأ الصحابة الكرام يجاهدون بكل ما ملكوا لتحقيق بشارة رسول الله لهم بفتح الشام. حميت المعارك، وسُكبت الدماء، تساقطت الأجساد، وحُملت الرايات، وتوّج المسلمون بفتح المدن مدينة تلو الأخرى، حتى منَّ الله عليهم بفتح دمشق ودخولها. ومن هنا، تغير تاريخ المنطقة بأكملها. ومنذ أن فُتحت دمشق، بدأت مدن بلاد الشام الكبرى تخضع للمسلمين، بما فيها المدينة الحصينة المنيعة: بيت المقدس. (كتاب فتوح البلدان للبلاذري، كتاب البداية والنهاية لابن كثير)



منذ ذلك الحين، أصبحت سوريا وفلسطين والأردن ولبنان مقاطعة واحدة، تُسمى ولاية الشام. أصبح مصير شعوب تلك البلاد واحداً، يحكمهم دين واحد ولسان واحد، ولا يفرقهم إلا الموت. لم تكن هناك حدود تمنعهم ولا أسوار توقفهم.



ظل شعب بلاد الشام على تلك الحال، لا يفرقهم حكم ولا سياسة ولا تعاقب دولٍ وسقوطها، حتى عام 1099م، حيث وقعت فاجعة هزت بلاد المسلمين بأكملها. اجتاح الصليبيون بيت المقدس، قتلوا الأطفال، وانتهكوا النساء، واعتقلوا الشباب، ومثّلوا بالشيوخ. فرقوا بيت المقدس عن ولاية الشام لأول مرة في تاريخ المسلمين. (الكامل في التاريخ لابن الأثير)



كان ذلك نتيجة ضعف المسلمين وتفرقهم، وحب الإمارة وشهوتها، ونخر المنافقين في الأمة. استمر الحال حتى جاء من قرأ التاريخ وعرف الطريق الصحيح: نور الدين زنكي، الذي بدأ بتوحيد الشام ومصر، ليكمل صلاح الدين بعده، وتُوجت تلك الجهود بعودة بيت المقدس لحضن بلاد الشام بعد كل تلك المعاناة.



كانت الطريق إلى القدس تمر عبر الشام، كما كان في عصر الصحابة المجاهدين. عاش أبناء الشعب الواحد في بلاد الشام رغم تعاقب الصعاب. كانت الدولة العثمانية تولي أهمية خاصة لولاية الشام لأنها مفتاح بلاد الإسلام ومهد الحضارات. تنبه العثمانيون لخطر يوشك أن يقع في تلك البلاد المباركة: الصهيونية وداعميها.



حاول السلطان عبد الحميد الثاني منع الصهاينة من تقسيم الشام وانتزاع فلسطين منها، لكنه فشل بسبب اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت بلاد الشام بما يخدم أطماع الصهاينة. وبعد الحرب العالمية الأولى ونهاية الدولة العثمانية، بدأ المحتلون يقسمون الكعكة ويدخلون البلاد بمسمى الاستعمار، فاختارت فرنسا سورية ولبنان، وبريطانيا الأردن وفلسطين.



حتى عندما كانت سورية تعاني من الاحتلال الفرنسي، كانت ترسل المقاومين والعتاد لدعم أهلها في فلسطين، والعكس كذلك. استمر الحال حتى تحررت سورية من الاحتلال، لكن فلسطين لم تتمكن من الاستقلال بعد، فظل السوريون يقاتلون جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين في كل الحروب والنكبات، كأنهم أبناء البيت الواحد.



هل تعلم عزيزي القارئ أن كثيراً من السوريين يعود أصلهم إلى فلسطين؟ وأن كثيراً منهم كان أجدادهم يجاهدون في فلسطين ويستشهدون بها؟ لم يقل أحدهم: “هذه قضيتك وهذه قضيتي”، لأن السوريين والفلسطينيين شعب واحد منذ فجر التاريخ. لم يفرقهم إلا سايكس بيكو ومريديه. واليوم، يتراشق أبناء الشعب الواحد الاتهامات بسبب السياسة، تاركين وراءهم إرث أجدادهم من مئات السنين، متناسين طريق الفتح الحقيقي.



ما فهمه الأجداد وبذلوا من أجله دماءهم ضاع اليوم في تغريدات الأحفاد. فبينما تهاجم أخاك وتنسى كل ما قُدم من أجل قضيته، فأنت لا تدافع عن قضيتك، بل تسجل اسمك في صفحات التاريخ السوداء.



سورية قدمت الغالي والنفيس لتنعم بالحرية والكرامة، وفلسطين تقاوم حتى آخر رمق لتطرد المحتل. فكن طريقاً للوحدة والحرية، ولا تكن حفيد سايكس بيكو وجنداً من جنود الصهاينة بالمشاركة في هذه الفتنة. تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن عقر دار المؤمنين الشام.”



وفي وقت كانت فيه الأمة في أصعب أوضاعها، حيث كانت بقاع المسلمين متفرقة ضعيفة، لا حياة فيها ولا نور، كان الأمل مكلوماً والحال معدوماً، كما هو الحال اليوم. كانت الشام بمثابة حلبة صراع للطامعين، والقدس محتلة من الصليبيين. بعد فترة، جاء صلاح الدين وجيشه، وحرروا الشام من قبضة الطامعين، فاستقبله أهلها بحفاوة وفرح. وعاد الأمل بأن نصر الله آتٍ لا محالة، مهما طال الزمن.



وما هي إلا سنوات حتى تحقق الحلم، وفتح بيت المقدس، وأشرقت فيه شمس الإسلام بعد أن غربت لأكثر من ثمانين عاماً. واليوم، أشرقت شمس الحرية على سوريا بعد ليل طويل، وفاحت رائحة الياسمين. وعادت البلاد لأهلها، ودخلوها ساجدين. وكما استبشر الأجداد بتحرير بلاد المسلمين، فليكن هذا التحرير هو المرمم للأمل من جديد. استبشروا، لأن العاقبة للمتقين. وكما كان الأجداد يتبادلون الأرواح في سبيل التحرير، فإن الأحفاد سيقفزون على إرثهم قائلين: “من سورية هنا فلسطين.”

شارك

مقالات ذات صلة