الحراك المصري الداعم لفلسطين: أُجهض أم تخبّط مؤقّتا؟
انطلاقًا من سابع أكتوبر الماضي، وتزامنًا مع العدوان الهمجيّ الذي تلاه ومازال مستمرًّا حتى اللحظة، تبلور على استحياء حراكٌ مصريٌّ يحتجّ على الجريمة ويدعم الأهل، دوريًّا أمام نقابة الصحفيين وبضع تظاهرات متناثرات في وسط القاهرة وبعض ضواحيها، ما يكاد يبدأ إلا ويُوأد بضربةٍ أمنيّة لا يحتملها المنظّمون والمشاركون على حدٍّ سواء. تكرّر الأمر مرّة في خواتيم أكتوبر عندما زحفت المسيرات لميدان التحرير وهاجمت السلطة فاعتُقِل نحو 200 من المتظاهرين، والثانية في مارس حين أصرّ المنظّمون على إقامة وقفته، وإن أرجأوها لليوم التالي، رغم التهديدات التي طالتهم، و طالت غيرهم ممن ليسوا طرفًا، وأعلنوا عنها في “بيان” قد تكون السلطة اعتبرته تحديًا يجب العقاب عليه فاعتقلت نحو 16 من بيوتهم فجرًا، وأخيرًا حيث الاعتداء على عدد كبير من الناشطات والمحاميات والصحفيات واعتقالهن بعد وقفتهن أمام مقرّ الأمم المتحدة للمرأة احتجاجًا على تخاذل المنظمة.
كأنّما يتحجج المتظاهرون بالضربة الأمنية ليتراجعوا، رغم إمكانية تجاوزها في كلّ مرّة والتعاطي معها مواجهةً أو استيعابًا أو تحايلاً، لكنّ استعدادًا انهزاميًّا كان يسبقها – أو ينتظرها – كمبرّرٍ لسقوطٍ بُذِر في النفوس سلفًا، أو لعلّها فُقدانًا للطاقة جعل أي ضربة مهما بلغت تعيدنا لمربّع الصفر مرّة أخرى.
ربما يُفهم الخلل البنيوي الذي يهدد مثل هذا حراك، إذ يأتي بعد عشر سنين من تجريفٍ تامٍ لكلّ ما هو سياسي، إغلاقًا للمساحات، وتأميمًا للنوافذ، وقضاءًا على كلّ احتمالٍ للمعارضة بالتحبيس أو التقتيل أو الارتهان. فيبقى في موضع ردّ الفعل في كلّ مرّة، كما تشمله ارتباكة بين صوتين أحدهما يرى ببقاء التخلّص من الوضع القائم مآلا وحيدا أمام أيّ احتمالٍ أو محاولة، والآخر يأخذ بجديّة – أو يدّعي ذلك – هُراءات الحوار والاستراتيجيّة و”الانفراجة” المزعومة فكأنّما هي محاولة أولى للإبصار بعد تاريخٍ من العمى يشوبه التخبّط غالبًا، كما تُفتقد فيه تصوّرات الخطوة القادمة كثيرًا، إذ لا يُدركُ المبصرُ لو أنّه أبصر حقًا أم هذه أمانيّه؟ خاصة في غياب التواصل والتنسيق المباشر والجاد بين الأطراف الفاعلة من بقايا القوى والشخصيّات الناشطة، سواء لأسباب كانعدام الفرصة والمساحة (آخر محاولة للنقاش والتواصل السياسي الجاد انتهت باعتقال رموز سياسيّة بارزة في خليّة الأمل).
هذا الانقسام الحاد، الواضح في مناوشات علنيّة في قلب الحراك، حول الهتاف والسقف والصياغات بين تيّارين يعبّر كلٌّ منهما عن نفسه في قاموسه وما ينشره من أخبار حول الحدث أو نقلاً منه، وأخيرًا حول تصوّرات كلّ منهما حول ذاته وبالتالي حدود علاقته بالسلطة وموضعه من الشارع، والذي ينبني عليها كل ما بعدها.
هذا الخلل طبيعيٌّ رغم فداحة أثره وجلال اللحظة التي يجري فيها، لكنّه يحمل تهديدات على جانب آخر بما لا يصحّ أن يكون تزامنًا مع مأساة كتلك التي نشهدها الآن لنصف عامٍ أو يزيد، ويتضمن ترسيخًا لتحديد الأسقف والحدود بناءً على الضربات التي لن تتوقّف؛ لأن السلطة تُدرك معنى أن يستمرّ الحراك وينمو بسقفٍ كهذا الذي نحاول فرضه. فالقبول بالتراجع أمام الضربة الأمنيّة الأخيرة وما صاحبها من تهديدات، سواء طالتنا أو تجاوزتنا لمن لا يد لهم في الأمر برمّته، خسارة كبيرة لم تُهدر الفرص لاستكمال البناء حول النواة التي خلّقها الظرف فحسب؛ إنّما رسّخت بشكلٍ ما قاعدة: : “خطوة للأمام .. ضربة .. خطوتين للخلف”، والنتيجة الختاميّة: تراجع، والأهم: رسّخت ابتلاع الكلّ ألسنتهم تزامنًا مع الإبادة.
مرور فاجعة غزة بهذا القدر من الصمت والانهزام ليس خطرا على كرامتنا وشرفنا فحسب؛ إنّما على وجودنا كذلك، إذ لن يتحرّك من لم يتحرّك الآن، لا شيء أفظع سنعايشه ولا اختبار أثقل، وعبوره بأيّة نتيجة سيحدد القادم لا نصرًا وهزيمة فحسب؛ بل وجودًا وعدمًا.